د. رشا سمير تكتب: الباحثة عن الحب
اقتنعت بكلامه وتركت عملها لتربية أبنائها فاغتال أنوثتها
الخطوات الأولى فى حياة البشر هى أقدارهم التى تتشكل وأحلامهم التى تولد وقصص الحب التى يبحثون عنها، وما بين أشخاص يرحلون ويأتون، وأحداث تزلزلهم ومواقف يستقوون بها، تنبت الأزهار العطرة وتنام النجوم بين أحضان السماء.
كانت الغربة سكن طفولتها والحرمان عنوان دائم لمشاعرها، لم تكن أحلامها المال والشهرة مثل سائر البشر، كان الاستقرار هو حلمها الوحيد، والدنيا هى مبلغ همها، الحُب فى مخيلتها كان رجلا فى وسامة رشدى أباظة وصوت عمر الشريف ورجولة أحمد مظهر وخفة دم فؤاد المهندس.
تربت بعيدًا عن أرض الوطن، حيث كان أبوها يعمل مهندسا فى العراق، ترعرعت فى الغربة ودخلت الجامعة هناك، حتى اندلعت الشرارة الأولى للحرب بين الكويت والعراق واضطر الأب للعودة إلى القاهرة.
فقدت أمها وهى طفلة صغيرة، وتزوج أبوها من أخرى، ولم تعد ذكرى الأم أو ملامحها باقية إلا فى مخيلتها البعيدة أو فى ملامح صديقة أمها، التى كانت تزورها بشكل دائم تحتويها وتستمع إلى مشاكلها.
عملت فى إحدى الشركات الخاصة، موظفة فى إدارة العلاقات العامة، سرعان ما بدأت تشعر بالجمود من خلال الروتين وغيرة زميلاتها منها، ووصل الأمر إلى آخره حين بدأت تشعر بعيون الموظفين الرجال تلاحقها وتلتهمها كلما تحركت.
إلى أن قابلها عميل جاء إلى الشركة فى أحد الأيام، يبحث عن فتاة إعلانات رآها فانبهر بجمالها، عرض عليها أن تعمل معه كموديل، رفضت دون تفكير وقالت له: «أنا أريد أن يكون لى وظيفة ثابتة وأن يكون لى مستقبل له علاقة بدراستى، أحلم بالاستقرار وأحلم بأن أتزوج رجلا بحق وأكون أم أولاده، الشُهرة ليست ضمن أحلامى، ربما الحب».
ولأن الأضواء خادعة وجاذبة، ولأن الشهرة هى السكين الذى تُذبح على أعتابه كل القيم والأحلام، كان حضور الفتاة عشرينية العُمر تصوير إعلان تليفزيونى بمثابة المغناطيس الذى جذبها دون تفكير إلى أضواء الكاميرات.
عرض عليها المنتج أن تشاركه إعلانه القادم، فوافقت هذه المرة دون تفكير، وقررت أن تخوض التجربة من باب الاختلاف أو حتى يأتى الحُب، كانت التجربة مختلفة، وقفت أمام الكاميرا وهى ترتعد وتتلعثم وتجفف العرق الذى يتصبب من جبينها، أعادت المشهد البسيط مرة واثنتين وثلاث، حتى قطع المخرج التصوير وطلب منها أن تتبعه إلى الخارج لتشم هواء نقيا.
قال لها: «أنت أجمل بنت فى البلاتوه وأذكاهن على الإطلاق، ويجب عليك أن تثبتى وجودك بينهن دون خوف، أنت الأقدر والأجمل وسوف تنجحين، رددى ورائى هذه الجملة كلما دب الخوف فى أوصالك».
لم تنس كلماته لها ولم تنس لمعة الإعجاب فى عينيه، باتت تتفرس كل وجوه الرجال الذين تقابلهم علها تلقاه من جديد، إلى أن جمعهما القدر مرة أخرى فى بلاتوه فيلم قصير كتب له السيناريو صديق لها من معهد السينما، كمشروع تخرجه وطلب منها أن تقوم ببطولته كتجربة مختلفة.
لمحته فى مكان التصوير يعطى أوامره، يصرخ ويوجه ثم ينظر فى الكاميرا بعين الفنان الواثق، اقتربت منه وسألته: «هل تتذكرني؟»
همس فى أذنيها قائلا: «عيناك يحتلان ذاكرتى منذ التقينا..فكيف أنساك؟»
التقيا، تحدثا، تناقشا، ابتسما، تشاجرا، اختلفا، اتفقا، وتعاهدا، ثم تزوجا.
تزوجا على الرغم من كل الاختلاف بينهما، فهو يكبرها بعشر سنوات، هى جميلة وهو بعيد عن أى معنى للوسامة، هى طموحة ومرحة وعاشقة للحياة وهو من أسرة متدينة وليس من الرجال الذين ينبهرون بالنساء المتحررات.
قصة حبهما أصبحت حديث المجتمعات الفنية والراقية فى مصر، المخرج الذى تزوج فتاة الإعلانات، المخرج الذى استطاع من خلف الكاميرا أن يبرز موهبتها ويبدل جلدها لتصبح إحدى أهم الموديلز فى مصر.
انهالت عليها العروض من إعلانات لفيديو كليبات وحتى الأفلام، فى لحظة بدأ يشعر أنها سوف تنفلت من قبضة يده، فعرض عليها المشروع الذى لا تتردد فى قبوله أى ا مرأة على وجه الأرض، وقبلت المشروع، أصبحت أما وأنجبت أول طفل لها، تعثرت أحلامها بعد الإنجاب وطلب هو منها أن تتفرغ لرعاية الطفل.
اعترضت فى البداية وقالت: «لن أترك النجاح من أجل الطفل، من الممكن أن أعتنى به أثناء عملي»، رد مقاطعا ولكن بذكاء المُحب: «النجاح سوف يأتى لا تتسرعى وابننا هو قصة حبنا التى جمعتنا فلا تُهمليه».
اقتنعت بكلامه وتركت عملها من أجل أن تتفرغ لتربية ابنها، وبعد عام واحد حملت مرة أخرى، وهذه المرة رزقها الله ببنت، أخذت منها الجمال ومن أبيها الذكاء، تورطت مرة أخرى فى الرضاعة والحفاضات والتطعيمات وعاشت بين أصابع زوجها المخرج الذى اعتلى مقعد النجاح متفردا.
وفى إحدى الليالى الهادئة، وهى تلقى برأسها على كتفه، اقترب منها واحتضنها بقوة وأخبرها أنهما سوف يسافران لقضاء فريضة الحج بمناسبة عيد زواجهما، وربما تقوم بالحج عن والدتها المتوفية، أسعدتها الفكرة وتحمست للجزء الذى يخص الوالدة.
عادت وهى إنسانة أخرى، عادت إمرأة جديدة، امرأة تركت الأضواء من أجل أطفالها بل قررت أن ترتدى الحجاب بعد إلحاح من زوجها، عاشت أربع سنوات وحياتها تدور حول الزوج الذى خلعها من شخصيتها وحياتها بالتدريج، أهملت نفسها ودخلت فى طور اكتئاب حتى نست أنها أنثى أو حتى نجمة.
مع الوقت ترامى إلى سمعها مغامرات زوجها العاطفية، شاهدوه مع غيرها، أخبروها أنه تزوج بعقد عُرفى فى أحد الأوتيلات، جاءوها بصور له فى أوضاع عشق مع فتيات شتى، ثارت ثورتها وجن جنونها، صارحته بما سمعت فأنكر وأخبرها أنه يعشقها، طلبت الطلاق فأبى وبكى تحت قدميها يستعطفها أن تعطيه فرصة أخيرة.
كان لابد لها أن تعود من جديد إلى الحياة التى ماتت وهى على قيدها، فخلعت الحجاب وعادت إلى عملها كموديل إعلانات وعارضة أزياء، كان كلما رآها تتألق يختلق لها المشكلات ويجذبها إلى أحضانه ليثبت أنه الرجل.
حتى الأموال التى اكتسبتها من عملها كان يأخذها منها عن طيب خاطر ويضعها فى حساب مشترك فى البنك، بحجة مصاريف البيت ومدارس الأولاد كثيرة، نالت لقب (فاشونيستا) عن جدارة وبدأت المجلات الأوروبية تطلبها فى جلسات تصويرخاصة ،وأصبح اهتمامها بنفسها هو محور كل الأصدقاء.
بدأ الزوج يحفر لها الفخ من جديد، حملت مرة أخرى وهذه المرة أنجبت توأم..
لم تتذمر كثيرا فهى عاشت طول عمرها طفلة وحيدة والأسرة من وجهة نظرها هى السكن.
حاول أن يفرض سيطرته لكن العصفور كان قد بدأ يتململ من العُش التقليدى،
وفى لحظة مصارحة مع النفس اكتشفت أنها نست كونها امرأة، أنها قرأت الفاتحة على أنوثتها المتفجرة وودعت جسدها الفائر وإبتسامتها المثيرة.
أجبرها الملل أن تفتش من جديد فى صوان ملابسها وأن تبحث عن طبيب تجميل يعيد رسم الرتوش التى وصمها بها الزمن، عادت تتألق كل يوم على أغلفة المجلات وتظهر فى المقابلات الصحفية لتتحدث عن العشق والحرية ومساوئ الزواج.
أنذرها زوجها ولم تستمع، منعها من الخروج فصرخت فى وجهه وأحدثت فضيحة فى الكومباوند الهادئ، ذهبت إليه فى موقع تصوير أحد أفلامه ووصفته بأنه لا يمتلك من الرجولة شيئا لأنه قهرها وسمم حياتها وخانها وأخذ نقودها، طلب منها الرحيل..فطلبت منه الطلاق.
دفعها بعيدا، فصفعته، جذبها من شعرها وأوسعها ضربا، إنتهى تصوير تلك اللقطة عند المأذون، سألها أمام المأذون والدمع فى عينيه: «والأولاد»، ردت وابتسامة تعلو وجهها:
«لم يعودوا محتاجين إلينا..أوصلناهم إلى بر أمان»
عادت تبحث عن نفسها، عن براءتها المفقودة، عن العمر الذى ضاع من بين ايديها، عن رجل تحبه ولا يغتال أحلامها، عن نجاح أكبر فى دنيا السينما، عن زوج لا يصادر أحلامها.
باتت تطارد الفراشات كلما صادفتها.. وتقطف الفل لتصنع منه عقدا، وتبحث عن العشق بين زخات المطر، وسط حبات الكرز وبين خيوط القمر، كسرت أصفاد الزواج والمسئولية والممنوع والمسموح حتى قابلته، وأطلقت لنفسها العنان كى تنطلق..على الرغم من أنها تكبره بأعوام كثيرة، فهو إنسان رائع وسيم مُحب للحياة ويشبهها فى كل شىء.
وقعت فى غرامه بكل ما أوتيت من قوة وشجاعة ومشاعر، لم تبال بنظرات أصدقائها ولا هجوم طليقها ولا استياء معجبيها، بل قررت أن تسير هذه المرة خلف قلبها، آن أوان أن تستعيد دقائق عمرها التى ضاعت منها بعد العُمر الطويل.