منى غنيم تكتب : (قطة شروعادل)
(قطة شروعادل) هي قصة قصيرة من أكثر من جزء سيتم تناولها تباعا على حلقات عبر بوابة "الفجر" .
الفصل الأول
غادة عادل الجناوي
أنا عادل أحمد محمد الجناوي، الجناوي ليس اسم عائلتي ولا كنيتي لكنه إشارة إلى بلد الصنع، طريقة عجيبة لتقديم النفس أعرف، لكنها مهمة جدًا في سرد الأحداث كما سيتضح لك؛ فمن هنا بدأ كل شىء، لأول مرة أعرف شعور بطل القصة وإني لأتسائل إن كانت المعضلة هي المكان أم الشخص؟ هل تعرف تلك اللحظة حين تقف وحيدًا في منتصف القصة وأنت لا تعرف مالذي أتى بكل هذا الخراب المستعجل؟ من هو غراب البين في الموضوع؟ أنت أم المكان أم الوقت أم الآخرون؟ أسمع ما يدور بخلدك الآن وأكاد أتلمس صورتي الضبابية التي تقوم برسمها في مخيلتك؛ سمار النيل، الشعر الأسمر المجعد، تجاعيد الجبهة الخفيفة التي رسمتها الشمس، طيبة السحنة التي طبعتها عفاف راضي في العقول، بنية جسدية قوية لا بأس بها مع صحة بادية، حسنًا دعني أصدق على كل ما تصورت وأزيد عليه، أنا لن أخيب ظنك في الإكليشية هذه المرة؛ أنا كل هذا وأكثر، ولكن أرجوك لا تبدأ في غناء الشمندورة أو تحاول جرجرتي لغناءها معك، ورجاء لا تسألني عن معناها، فلتبحث على جوجل! قل لي إن كنت قاهريًا أو بورسعيديًا أو سكندريًا ثم قلت لك أنه يوجد لديكم ما يدعى ب"السمحلوبة" ثم وضعتها لك في أغنية هل ستطالبني بتوضيح المعنى كلما رأيت وجهي أو بالتصرف كقاموس؟ هل ستناقشني في الأسس التطورية اللغوية التي سمحت بنشوء السمحلوبات من الأساس؟ لا أظن؟ الآن دعني أسرد لك ما حدث ليلة الإثنين العشرين من نوفمبر العام المنصرم، ليلة مطيرة كانت جراء السيول التي ضربت الصعيد بلا هوادة ولا سابق إنذار؛ سيول الصعيد يا صديقي لا تأتي مدعوة بل تأتي دون إتباع نمط معين لفيزياء الأرصاد الجوية؛ قد تثلج في بر مصر كله ويكون الجو قيظًا عندنا والعكس صحيح، المهم أن الليلة كانت عيد ميلاد ابنتي غادة، حلوتي ذات الأحدى عشر ربيعًا والتي صادفت أيضًا يوم ميلاد صديقتها المفضلة في الفصل: مروة، هل ذكرت أن اليوم أيضًا هو يوم الإحتفاء بعيد الطفولة العالمي؟ الليلة عيد إذن، أو كان يجدر بها أن تكون.
كانت غادة تجلس إلى جواري في سيارتنا الهيونداي الماتريكس الكحلية متشحة بكوفية ثقيلة حول رقبتها وقد عقدت الجانب الأيسر من شعرها على شكل ضفيرة صعيدية بينما تدلى النصف الأيمن مسترخي سليم التجاعيد، تسريحة عجيبة لكنها تحبها، الواقع أن حلوتي لم تكن يومًا طفلة عادية؛ كانت متقدة الذكاء مقارنة بأترابها، لا تهوى اللعب كثيرًا لكنها تنافسني في الشطرنج! نابغة في لعبة فيديو البنائيين الشهيرة ماينكرافت Minecraft، دائمة السؤال عن المعادلات الفيزيائية التي تراها في أوراقي البحثية، وتقوم بالحسابات الرياضية بسرعة أدهشت حتى أساتذتها، لقد ورثت الذكاء مني كما يبدو؛ فأنا أستاذ جامعي لمادة الفيزياء في كلية علوم جامعة جنوب الوادي في قنا، لا أعلم أي وادِ يقصدون هنا، هل هو واد الملوك؟ مستحيل لأن موقعه في الأقصر أي جنوبنا، كما أن محافظة "الوادي الجديد" تحدنا من الغرب، ربما يقصدون واد "بئر العين" الأشهر في سوهاج التي تعلونا حيث يقع في وسط الجبال على مسافة ثمانية كيلومترات تقريبًا ويقصده القاصي والداني بغرض الاستشفاء من الأمراض المستعصية أو الإنجاب كالسيدات العاقرات أو حتى فك شبح العنوسة، نعم، يبدو هذا منطقيًا، كانت غادة تجلس محتضنة الدبدوب الحمصي الصغير الذي زينت رأسه بشريطة واتخذته هدية لمروة، المطر يطرق بإلحاح أبواب السيارة ونوافذها، الهواء عكر المزاج ويبث شبورة في وجوهنا، بالطبع ما أفعله ليس بالظبط معتادًا هاهنا ولا يحدث كل يوم؛ فعادات الناس في قنا لا تزال أقرب للتحفظ والأقدمية لا سيما في التعامل مع الأناث، ما أفعله قد يبدو لك قاهريًا جدا بل وربما أمريكيًا، لكني لا آبه بما يقوله المجتمع؛ فلن يخبرني المجتمع كيف أعيش! قالها أعزب هوليوود الأشهر الممثل جون كوزاك حين سُأل عن سبب إحجامه عن الزواج، كنت أنظر إليها ثم أعاود النظر إلى الطريق، أحب النظر لأنفها السمراء المدببة المحمرة قليلًا بفعل البرودة، تمتلك غادة أنفًا لا تمت للصعيد بصلة، تذكرني بأنف والدتي رحمها الله ومن قبلها جدتي، كل ما لا يمت للصعيد بصلة يصنف هنا عجيبًا شاذًا ربما لأننا من أنقى الأعراق المصرية وأقرب ما نكون لأسلافنا القدماء، ولم نتجنس كباقي مدن الجمهورية، كانت غادة متحمسة، عرفت ذلك من طريقة تحسسها لقمة رأس الدبدوب.
- كل سنة وأنتِ طيبة يا حبيبتي.
- وأنت طيب يا أبي.
-سأتي لأقلك في التاسعة والنصف كوني مستعدة، لا أريد أن اتأخر عن الكلية غدًا ولا أنتِ عن المدرسة.
- حسنًا.
- استمتعي بوقتك، ولا تلقي الدبدوب في وجه مروة فور دخولك، تحدثي معها أولًا ثم تذكري فجأة أنك جلبتي لها هدية.
ابتسمت بخبث، فهي تعلم أن إرشادات "الواحد على واحد" في النصح المجتمعي التي أحاول أن ألقنها إياها لن تجدي نفعًا معها، لم تكن غادة متكبرة بكل تأكيد لكنها فقط مختلفة، دعنا ندردش عني قليلًا من أجل كسر حدة الجليد وبرودة الجو وتخفيف عبء الطريق، أنا أعشق عملي حد الثمالة، بل وأذوب عشقًا في كل ما يمت للفيزياء بصلة؛ أنا أؤمن أن الإجابات -كلها- تكمن في الفيزياء، كل ما تود معرفته عن نفسك وعن العالم وعن المستقبل يكمن في الفيزياء، أؤمن بصدق أننا سنصل ذات يوم من خلال توغلنا فيها للإجابة عن السؤال المُركب العملاق في هذا الكون: السؤال ذاته الذي طرحه وقُتل من أجله الملياردير إدمون كيرش في رواية دان براون الأشهر "الأصل": من نحن؟ من أين جئنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ نعلم الكثير ولا زلنا لا نعلم شيئًا حقًا، الوفد الأعظم من طلابي سيتخرج من الكلية ليلتحق بأي مدرسة ثانوية من أجل العمل كمدرس فيزياء ليس حبًا فيها ولكن طمعًا في ملىء الكروش بسرعة و بناء الامبراطوريات الصغيرة من الدروس الخصوصية، النذر اليسير سيتجه للعمل كسائق في شركة أوبر في المحافظات أو سيترك البلد كلية بعد رزع عشرات الطرائح على مواقع التواصل المجتمعي في سب البلد التي لا تسمح لشبابها بالعمل في تخصصاتهم، أعلم ذلك علم اليقين، الحقيقة أنني لا أدري إن كنت سأسلك نفس الدرب إن لم أكن سعيد الحظ ويتم اختياري للعمل معيدًا في الكلية أم لا، لا تقود كل الأسألة إلى إجابات.
- غاااااااادااااااا
خرجت مروة مسرعة من فناء بيتها المكون من طابق واحد الذي يعلوه بقايا أكثر من هوائي وطبق دش عملاق، يبدو أنها وقفت تنتظر حتى لمحت السيارة من نافذة البيت ولم تآبه للمطر بالطبع من فرط الحماس، ابتسمت غادة وخرجت من السيارة واحتضنتها ثم انطلقت الفتاتان مبتلتان صوب البيت، لمحت أبيها واقفًا في المدخل مرتديًا جلباب الشتاء الصعيدي الصوفي الرمادي، ومتشحًا بعمامة صوفية ثقيلة، كان يبدو لي من بعيد كالبطانية، أطلقت نفير السيارة كإشارة ترحيب فرفع يده لرد التحية، فقدت السيارة مبتعدًا..
المطر يزداد غزارة وينذر بكارثة، لكننا صعايدة يا صديقي واعتدنا هذا منذ نعومة أظافرنا، معظم بيوت الصعيد محصنة ضد السيول، في المناطق المشهورة بثراء قاطنيها تجد مالكي السيارت يعرفون الشوارع ذات المستوى العالي لركنها، البيوت البسيطة بجانب الطريق الزراعي- كبيت مروة- مبطنة السقف بالأسمنت وتنتشر في أفنيتها الحفر المحفورة بعناية ودقة من أجل امتصاص مياه السيول، حتى المنازل الأبسط حالًا يعرف قاطنوها مبادىء تدعيم السقف بالخشب أو بجريد النخل العملاق، الحياة تجد وسيلة، انحرفت يمينًا مع المنعطف الأول في بداية الطريق الزراعي كي أقابل صديقي القديم علاء الذي ينتظرني منذ ساعتين على القهوة، لم أشأ أن أذهب به لمكان بعيد حتى يتسنى لي إقلال غادة بسرعة في حالة فوران الطقس أكثر من هذا، كنت أدندن كلمات أغنية "يا حمام" لمحمد منير، لماذا؟ لأنه إن كنت في اكليشيه يا صديقي فعليك أن تتصرف كواحد، جلس علاء جلسته المأنتخة المعتادة مرتديًا معطفه الجلدي الشتوي الثقيل وممسكًا في يده بسيجارة وقد طار شعره المفروق مثل عادل امام كله إلى الجنب، ابتسمت وأنا أقترب منه..
-على ما تضحك؟
-افتكرت نكتة.
بعد السؤال عن الأحوال جلسنا نرتشف القهوة الساخنة ونتبادل أطراف الحديث عن البلد
التي لم تعد كما كانت والبنزين الذي لم يعد كما كان والأسعار التي لم تكن أبدًا كما كانت وفاتورة الكهرباء التي جاءت لا كما كانت وأهل البلد الذين لن يكونوا أبدًا مثلما كانوا حين تلقيت المكالمة، كان الصوت على الطرف الآخر هو والد مروة مرتبكًا مخنوقًا يبحث عن الكلمات حين قال:
-ياداكتور مش عارفين نجولك ايه بس تعالا دلوجيت ..عاوزك تسمي الله كده وتسمع مني وكل مشكلة وبإذن الله لها حلال.. احنا مش لاجيين غادة.
سقط قلبي في قدمي.
-ايه؟؟
-معارفيينش اللي حصل، غادة مسابتش البيت، مطلعتش بره ولا دجيجة واحدة، هي هملت مروة ودخلت المطبخ جالت عاوزة أشرب وغابت جوه ييجي دجيجتين بعدين لسان برج ضرب السوطح الكهربا لعبت سمعناها بتصرخ، جرينا ع المطبخ لجينا كل حاجة زي ماهي حتى الكوباية بس ملجينهاش هي.
-يعني ايه ملجنهاش؟؟ يعني ايه الكلام ده؟
-يعني يا عادل ياخوي زي ما يكون بلعها الهوا ولا خدها بسم الله الرحمن الرحيم.. يا عادل تعالا نشوف كيف هنتصرف البنية فص ملح وداب.
......
(يتبع)