عادل حمودة يكتب: استراتيجية ترامب الجديدة: ابتزاز الثروات العربية حتى آخر دولار فى خزائنها
سمسار البيت الأبيض رئيس من قش يعود إلى صوابه إذا لم يستجب أحد لتهديداته كما حدث مع الصين وتركيا وكوريا الشمالية
التخويف بإيران ليس بالخطر الذى يصوره ترامب فقد حاربها العراق ست سنوات وحده
تتصرف الولايات المتحدة فى بلادنا العربية وكأنها ميراث تركه لها المرحوم والدها وبعض من أملاكه حتى لو لم يشهر عقد الملكية.
ليس لنا الحق فى نظام حكم لا ترضى عنه.. أو وضع خطة تنمية لا توافق عليها.. أو الصلح مع دولة تراها عدوا.. أو خصام دولة تعتبرها صديقة.. أو معاشرة زوجة لا تأنس إليها.. وتسعى جاهدة على فرض غرامات بالمليارات على تصرفاتنا التى لا تعجبها.
ولا تتغير السياسة الأمريكية بتغير الرؤساء الذين حكموها مهما اختلفت ملامحهم الشخصية وانتماءاتهم الحزبية وكأنها نص مقدس لا يقبل التغيير أو التعديل أو التأويل.
إنها مع إسرائيل راعية ومساندة وضامنة لتفوقها العسكرى ضد كل من يهدد أمنها.. ولن تترك الثروة النفطية العربية دون استغلال حتى آخر قطرة فيها.. مستنزفة المليارات التى تجنيها حتى آخر سنت فى خزائنها.. وستقف بكل ما تملك من قوة خشنة أو ناعمة ضد تسلل الاتحاد السوفيتى إلى المنطقة بحثا عن الدفء الذى يحلم به.
وكل من يحاول الخروج عن هذه الاستراتيجية إما يقتل برصاصات مجهولة مثل جون كيندى.. أو يطرد بفضيحة مدوية مثل ريتشارد نيكسون.. أو يهدد فى سمعته الأخلاقية مثل بيل كلينتون.
لكننا نسينا أننا شاركنا فى وضع هذه السياسة على سفينة حربية رست فى البحيرات المرة بالقرب من مدينة الإسماعيلية قبل 73 سنة.
كان الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت عائدا من مؤتمر يالطا الذى وزع على المنتصرين فى الحرب العالمية الثانية غنائم الدول المهزومة.. أرضها وعرضها.. ولكن الثعلب القعيد كان يطمع فيما هو أكبر.. إرث الأسد البريطانى والطاووس الفرنسى فى الشرق الأوسط بعد أن أدرك أنه قادر على اصطيادهما بسهولة وحبسهما فى الحديقة الخلفية للبيت الأبيض.
فى منتصف فبرار 1945 التقى روزفلت على ظهر الطراد الحربى كوينسى بالملك فاروق (حاكم أكبر دولة عربية) والملك عبد العزيز (حاكم أغنى دولة عربية) والإمبراطور الإثيوبى هيلاسى لاسى (حاكم أقوى دولة إفريقية) ليضع معهما ترتيبات نقل الوصاية السياسية على بلادنا إلى بلاده.
لم يكن صعبا على روزفلت اكتشاف أن فاروق حاكم ثقيل الجسم.. خفيف العقل.. كان كل همه الشكوى من السفير البريطانى مايلز لامبسون الذى يعامله باستخفاف واستهزاء وكأنه ولد صغير.. وعندما بدأ الحديث عن استراتيجيات المستقبل ترك المهمة لرئيس ديوانه وعقله المفكر والمدبر أحمد حسنين باشا وهب من مكانه ليتفرج على الطراد ويلتقط صورة تذكارية بجانب مدافعه.
فى اليوم التالى جاء الملك عبد العزيز جالبا معه 8 خراف لطعامه الخاص ليضمن تناول لحما حلالا.. ولم يتردد روزفلت القعيد فى إهداء العاهل السعودى كرسيا متحركا عندما لاحظ أنه يصعد سلم السفينة بصعوبة.
طلب روزفلت من عبد العزيز التعامل بالكرم العربى الشهير مع القضية الصهيونية بمساعدة اليهود فى إعلان دولتهم على أرض فى فلسطين ولكن عبد العزيز رفض عارضا أن يكون وطنهم القومى على أرض ألمانيا التى عذبتهم واضطهدتهم وحرقتهم فى أفران الغاز.
ولكن عبد العزيز وافق على زيادة الوجود الأمريكى فى بلاده بحثا عن النفط وطالبا للحماية وحقق البند الأول للاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط.
وقبل أن يرحل عبد العزيز فى عام 1954 شهد بنفسه تحقق المبدأ الثانى بإعلان دولة إسرائيل فى 15 مايو 1948 واعتراف الرئيس الأمريكى الجديد هارى ترومان بها وتعهده بحماية أمنها وهو التعهد الذى التزم به كل من خلفوه فى البيت الأبيض حتى اليوم.
لم يفقد روزفلت الأمل فى إقناع فاروق بما يريد فأرسل إليه حفيده كيرميت روزفلت ضابط المخابرات المسئول عن ملف مصر حاملا خطة لاسترداد شعبيته المنهارة تقضى بإعلانه إماما للمسلمين ليضع الدين حاجزا أمام تسلل السوفيت ولكن الملك المستهتر اكتفى بإطلاق لحيته وإعلان نسبه للنبى دون أن يكف عن السهر فى الملاهى الليلية ولعب القمار فأطلق المصريون عليه: ملك مصر والسودان وسامية جمال.
وما أن سقط حكم فاروق حتى سعى كيرميت روزفلت للتفاهم مع عبد الناصر ورفاقه لضمان إبعاد السوفيت عن المنطقة تحقيقا للبند الثالث من الاستراتيجية الأمريكية ولكن واشنطن رفضت إمداد مصر بالأسلحة وماطلت فى تمويل السد العالى فلم يجد عبد الناصر مفرا من اللجوء إلى السوفيت ليحقق ما يريد واستجاب السوفيت لمطالبه بإفراط متوقع فقد فتح أمامهم أوسع أبواب المنطقة ليدخلوا منها تحقيقا لحلم بدا لهم مستحيلا من قبل.
وبتوتر العلاقات بين القاهرة وواشنطن تراجعت فرص قبول العرب بإسرائيل ليتهدد البند الثانى من الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة.
بل أكثر من ذلك تأثر النفوذ الأمريكى متراجعا فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بعد تصاعد نفوذ كتلة عدم الانحياز التى جعلت القاهرة العاصمة الثالثة للعالم بعد واشنطن وموسكو.
ولكن فى الوقت نفسه وضعت أكثر من خطة للتخلص من عبد الناصر عرفت باسم اصطياد الديك الرومى وفشلت محاولات عديدة لتصفيته جسديا ولكن نجحت محاولة تصفيته سياسيا بهزيمة يونيو 1967.
وبوفاة عبد الناصر قبل أن يدخل عامه الثالث والخمسين ورث خليفته أنور السادات الحكم وهو ينوى الانقلاب على سياسته كلها وانتظر الفرصة المناسبة.
قبل حرب أكتوبر طرد السادات الخبراء السوفيت من القوات المسلحة وأعاد إلى الاستراتيجية الأمريكية بندا مفقودا منها.
وما أن عبر القناة وحرر نحو 30 كيلومترا من سيناء حتى دخل فى مفاوضات فك الاشتباك بين القوات المتحاربة تمهيداً لسفره إلى القدس والتفاوض فى كامب ديفيد برعاية أمريكية وتوقيع معاهدة صلح مع إسرائيل ليعيد للاستراتيجية الأمريكية بندا آخر فقد منها.
وبحفاظ السعودية على بند تدفق النفط استردت الاستراتيجية الأمريكية بنودها الثلاثة وفرضت سيطرتها من جديد على المنطقة.
بل إن السعودية ساهمت فى القضاء على الاتحاد السوفيتى عندما قبلت بخفض أسعار النفط فى وقت كان الاتحاد السوفيتى فيه يعانى من أزمة اقتصادية حادة بسبب حربه المنهكة الخاسرة فى أفغانستان وبضعف موارده من بيع النفط عجز جورباتشوف عن تنفيذ سياسته الإصلاحية فانهارت إمبراطوريته الشيوعية واستقلت عنها جمهوريات إسلامية ومسيحية لم تتجانس معها وسرعان ما انتقلت العدوى إلى دول أوروبا الشرقية فخرجت من سيطرة موسكو عليها ووجدت فى الديمقراطية الغربية نظام حكم أفضل مما كانت عليه.
بانتهاء الحرب الباردة انفردت الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم فيما يعرف بالقرن الأمريكى ولكن واشنطن لم يسعدها ذلك وراحت تبحث عن عدو بديل تحاربه تنشيطا لمبيعات الأسلحة المتراكمة فى مخازنها وكان واضحا أن الإسلام هو العدو الجديد الذى صنعته مثل وحش فرنكشتين لمحاربة الشيوعية وحان الوقت للقضاء عليه.
ودخلت المنطقة فى صدامات شرسة ضد التنظيمات الإرهابية السنية سرعان ما أضيف إليها صدامات أكثر شراسة ضد القوى الشيعية التى نمت بانتصار الثورة الخومينية فى إيران وتمددت فى بلاد العراق بعد الغزو الأمريكى لها وعرفت طريقها إلى لبنان بظهور حزب الله وكشفت عن وجودها فى اليمن بدعم الحوثيين ونجحت فى الإبقاء على النظام السورى رغم تهدم بلاده وهروب الملايين من شعبه.
ولكن الحرب فى سوريا سمحت بدخول روسيا إلى المنطقة من جديد وبعقد مصر صفقات سلاح معها بجانب بناء المحطات النووية فى الضبعة فقدت الاستراتيجية الأمريكية أحد أهم بنودها.
وما أن جاء أوباما حتى غير اتجاه بوصلته السياسية من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى وفتح حقول النفط فى بلاده ليخفف من استيراده من الخليج فتراجع البند الأهم فى الاستراتيجية الأمريكية.
وبتسريح الجيش العراقى وضعف الجيش السورى وانشغال القوات الليبية بحروبها الأهلية وبمد غالبية الدول العربية الجسور المعلنة والخفية مع إسرائيل انتهت فعليا حالة العداء معها وفقدت الاستراتيجية الأمريكية بندها الثالث.
عادت روسيا إلى المنطقة وأصبحت طرفا فى تقرير مصيرها.. وتراجع تأثير النفط فى القرار الأمريكى.. ولم تعد إسرائيل فى حاجة إلى واشنطن.. بل.. أصبحت واشنطن فى حاجة إليها.. وهكذا.. يمكن القول إن الاستراتيجية الأمريكية التقليدية التى صاغت مصير المنطقة نحو ثلاثة أرباع القرن قد انتهت تماما.
وأدرك دونالد ترامب هذه الحقيقة جيدا فلم يتردد فى اختراع استراتيجية جديدة تلائم شخصيته.. شخصية السمسار.. المقامر.. الموهوب فى عقد الصفقات.. المستغل البارع للظروف لينالها.. القادر على التأثير النفسى فى الأطراف الأخرى ليخرج منهم بما يريد من مليارات.
استغل ترامب الأزمة القطرية ليكسب الكثير من ورائها.. واستغل حالة العداء مع إيران ليوهم العرب بأنهم مهددون منها.. ولو لم يدفعوا للولايات المتحدة ثمن حمايتها لهم سوف تنهار نظمهم.. وهو تهديد أجوف.. لا تدعمه حقائق القوة فى المنطقة.. فلا إيران تفكر فى مغامرة عسكرية خارج حدودها.. ولا الدول العربية ستعجز عن الدفاع عن نفسها.. وصيانة أراضيها.. وحماية شعوبها.. ويكفى أن نتذكر أن العراق حارب إيران وحده ست سنوات بإمكانيات عسكرية ضعيفة.. لا تقاس بما تملك الدول العربية المستهدفة حسب تصور ترامب.
استراتيجية ترامب الجديدة تعتمد على أوهام نفسية يروج لها بذاته مستغلا ظروف داخلية وحروب إقليمية ليفوز بعقد حماية يستنزف به الكثير من الموارد دون وجود خطر حقيقى يحتاجه ودون تأكيد على أنه سيتدخل عسكريا لو تعرضت بلاد عربية للخطر.
حاول ترامب تجريب هذه الاستراتيجية الابتزازية مع كوريا الشمالية بإطلاق مئات من التصريحات والتهديدات ولكنه عندما أدرك أن لا أحد فيها صدق كلامه سعى للتقرب منها والتقى برئيسها كيم جونج وخرجا معا كالسمن على العسل.
وحاول تجريبها مع الصين بفرض رسوم جمركية على صادراتها لبلاده ولكنه تراجع عندما هددت الصين بتدمير الدولار بطرح مخزونها الضخم منه وتكرر الموقف نفسه مع تركيا.
وحاول تجريبها مرة أخرى مع إيران بإلغاء الاتفاق النووى معها ليطالب الدول العربية بثمن كبير لقراره الذى لم يستهلك منه سوى بضعة كلمات ودون ضمان من جانبه بأن إيران ستنفذ بطريقة سرية غير مشروعة مخططها النووى فى عالم أصبح يبيع كل شىء فى الخفاء حتى أسلحة الدمار الشامل.
سيأخذ ترامب الأموال العربية دون أن يقدم إليها سوى الأوهام.. ولن يكتفى بما سيحصل عليه.. بل سيخترع أمورا تضاعف من ابتزازه.. وتجلب عليه المزيد من تلك الأموال.. ولن يهدأ إلا إذا حصل على آخر دولار فى الخزائن العربية.
هنا علينا مراجعة ما نحن فيه لسد الثغرات التى يتسلل منها ليحقق المزيد من الابتزاز وهذه مهمة عاجلة للدول العربية المستهدفة أن تثبت أنه رئيس من قش.. لا يحافظ على كلامه.. ويعود إلى الصواب إذا ما واجهنا بعدم الاستجابة.