د. رشا سمير تكتب: امرأة من كوكب الطموح
لم تمتلك من الجمال إلا قليله، ومن الذكاء إلا أبسطه، لم تولد وفى فمها ملعقة من ذهب، ولا ذاقت طعم النوم على وسادة مصنوعة من ريش النعام، لم تكن يوما من رواد النوادى العريقة، ولم يكن أبوها من أعضاء الروتارى أو واحدا من هؤلاء الذين يتحكمون فى سوق المال.
كانت مجرد فتاة، لا تمتلك إلا الحُلم، تحلم بأن تصبح فى جمال ليلى علوى وشُهرة فيروز ونفوذ الملكة إليزابيث، فقط تحلُم، وهى مجرد طالبة متواضعة الإمكانيات الذهنية، لكن ولأن كل البشر يمتلكون هذا الواحد الصحيح، فقد حباها الله بموهبة أخرى عوضتها عن كل الأشياء التى لم تمتلكها.
منحها الله حنجرة سمحت لها بأن تشدو فى كل الاجتماعات العائلية، فكان جارهم مطرب الموالد الصغيرة يمسك بالعود ويعزف، لتنطلق هى من خلفه تدندن بأغانى وردة وفايزة وأم كلثوم وسط انبهار أفراد الأسرة والأصدقاء.
رأى الأب فى ابنته ما لم يره غيره، سمع صوتها بقلبه، فكانت تشدو وهو لا يكف عن تشجيعها: «الله.. الله.. الله يفتح عليكى يا نجمة»، نعم..كان يراها نجمة منذ أن كانت فى المرحلة الإعدادية، ترتدى زى المدرسة وتجمع شعرها فى ضفائر تنسدل على ظهرها فوق حقيبة المدرسة التى أنهكتها من حملها الثقيل.
فى إحدى الليالى أخبر زوجته بأنه قرر أن يضع ابنته على أول طريق النجومية، فقد رآها فى منامه على خشبة مسرح دار الأوبرا المصرية واستيقظ متخذا قراره بأن يدفعها لتحقيق الحُلم، ردت الأم دون تفكير: «إنسى ما تقوله، ابنتى لن تدخل هذا الوسط، ابنتنا سوف تصبح طبيبة شهيرة كما تمنينا لها، مثلها مثل بنات خالتها».
فرد الأب بعفوية: «ليس هناك ما يمنع أن تدخل كلية الطب وتصبح طبيبة وتستغل موهبتها لتحقق النجاح كمطربة»، اعترضت الأم وأصر الأب، وبعد شهور، وقفت الابنة تشدو فى مولد السيدة زينب وسط المغنيات اللاتى يأتين من الصعيد للمشاركة فى المولد، وقفت تشدو بكلمات مرسى جميل عزيز وألحان بليغ حمدى فى ألف ليلة وليلة.
انهال التصفيق على مسامعها، وعقب الوصلة تقدم أحد الرجال منها وأخرج من جيبه كارتًا شخصيًا، ليخبرها أنه مخرج تليفزيونى يريدها فى مسابقة لاكتشاف المواهب الصغيرة بالتليفزيون المصرى، جرى الأب واختطف الكارت من يده وقال له قبل أن تستوعب الفتاة الموقف: «إن شاء الله سوف نكون هناك فى الميعاد المحدد، أنا مدير أعمالها».
تشاجرت مع أمها لدرجة جعلتها تصمم على الطلاق، حيث أخذت أبناءها الثلاثة الأصغر سنا وتركت ابنتها الكبرى مع أبيها، بعد كلمات تفوهت بها ابنتها عقب شجار حاد.
كلمات ذبحتها: «أنت تريديننى أن أسلك نفس طريقك، كيف وأنت امرأة لم يكن لديها أحلام ولا طموح، قضيت عمرك فى سجن الزوجية بلا محاولة حقيقية لتحقيق ذاتك وتصورت أن هذا هو النجاح، للأسف لا أراك قدوة لى، تزوج أبى بأخرى وارتضيت سنينا أن تقبعين فى ظله وتستكينين، أما أنا فلن أجعل رجلا يتحكم فى حياتى..أنا امرأة طموحى بلا حدود».
كانت دون وعى كلما تشعر بضيق تقرأ بصوت مسموع قصيدة بعنوان «دادى» أو «أبى» للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، وهى القصيدة التى تدور حول امرأة تعُانى من عقدة إلكترا، حيث كتبت فيها أبياتا عن والدها الميت الذى عاشت معه ثمانية أعوام وزوجها الذى هجرها وتخلّى عنها عاطفيًا بعد ثمانية أعوام أيضا!
فى الخلط بين الأب والزوج كرجل واحد، تشير سيلفيا بلاث إلى مساهمتهما العاطفية فى حياتها كامرأة مُصابة بعقدة سيجموند فرويد، أما هى فلم تعترف، ولم تكتب الشِعر.. فقط تمسكت بالحلم.
وحين اشتهر اسمها واعتلت مسارح العالم لتشدو بالألحان، قررت أن تتخلص من الرجل الذى احتكر حنجرتها، الرجل الذى جثم على أنفاسها، الذى أصابها بعقدة إلكترا.. الذى وقف بكل قوة أمام أى رجل آخر يحاول الاقتراب منها حتى لا تخرج من قبضته.
قررت بعد عناء أن تذهب إلى طبيب نفسى تحكى له ربما تصل إلى حل، نصحها بأن تغير حياتها وتتخلص من كل القيود التى تكبلها، ثم تبحث عن الحُب ولا تتردد فى الوقوع بين براثنه، فقررت أن تتبع روشتة العلاج، فاتخذت أول قرار.
افتعلت شجارا مع أبيها، طردته من بيتها وطلبت من أفراد الأمن الذين يرافقونها أن يمنعوه لو حاول الاقتراب منها، ثم قامت بتعيين مدير أعمال يتولى حفلاتها ونجاحاتها.
قال لها الطبيب: «الآن جاء وقت الحب، ابحثى عن رجل»، تركت لقلبها العنان وتركت لجسدها حرية الوقوع فى أحضان من تحب بلا مراجعة ولا تردد، قابلت الرجل الأول فى حياتها، ملحنا شابا قام بتلحين إحدى أغنياتها وقام بسرقة قلبها من بين ضلوعها بنظرة عين، صارحته بحبها ولم تنتظر أن يبدأ هو.
عرض عليها الزواج، فارتبكت وتراجعت وعادت الكوابيس تطاردها، فهى لا تزال تخشى سطوة الرجل على حياتها.
لم تتوقف أمام شرعية الارتباط، جربت الزواج العرفى والشرعى وعاشت آلام الطلاق، ثم جربت أن تعيش مع رجل بلا زواج، حتى وصلت إلى نوع آخر من الرجال، نوع جديد، بعد العاشق ونجم السينما ووصولا برجل الأعمال الخليجى، انتهى بها المطاف إلى الداعية، رجل الدين العصرى!
استمعت إليه وهو يتحدث عن التدين «المودرن»، على عشاء دُعيت إليه، جذبها من أول جملة، قاطعته فسمعها بهدوء، عارضته فاستوعب اختلافها، راحت تركب سيارتها فانحنى يفتح لها الباب.
لم تستطع أن تواجه جاذبيته، فقد وقعت فى غرام عقله وهى المرة الأولى التى تفتن بعقل رجل.. إنه العشق الحقيقى، عادت إلى طبيبها النفسى تؤكد له أنها شفيت تماما، وأنها وجدت الحب الحقيقى، الرجل الذى سوف يخطفها من احتكار أبيها واحتلال الرجال حياتها.
أصبحت بيروت وجهتهما، يلتقيان من خلف عيون الكاميرات والصحافة، فلا هى تستطيع أن تفقد جمهورها ولا هو يمتلك ثمن اهتزاز صورته فى عيون متابعيه، إلى أن التقط أحد الشباب صورتيهما بموبايله الخاص ونشرها على صفحته، فالتقطتها مواقع التواصل الاجتماعى فى دقائق معدودة. بعد أيام كان الخبر الذى أنكراه قد ملأ الدنيا، وانتهت قصة الحب، لا زال الداعية يبحث عن مبرر لعشقه، ولازال الأب يحاول العودة إلى حياتها، ولازالت الأم تتحسر على ابنتها التى إمتلكت كل شئ وفقدت نفسها.. ولازالت هي تبحث عن رجل يكسر إلكترا بداخلها.. ولازال الطموح هو كوكبها البعيد وعنوان سكنها.