بطرس دانيال يكتب: بين العقل والقلب
سألوا الحكيم: ما الفرق بين القلب والعقل؟ أجاب: «العقل ينصح بالأنفع بينما القلب ينصح بالأنبل». يُحكى أن أحد الأشخاص لم يجد حافظة النقود التى تخصّه، فبدأ الشك فى ابن الجيران وكان يظن هكذا: «هذا الشاب يُشبه اللص، يسير ويتحرّك ويتكلّم كاللص». لكنه بعد قليل وجد حافظته فى أحد الأدراج، فنظر إلى ابن الجيران مرةً أخرى، وأدرك أنه يسير ويتكلم كأى شاب آخر فى عمره. نتعلّم من هذا الموقف درساً واضحاً، كم من المرات التى فيها نُحكّم عقلنا بطريقة خاطئة معتمدين على المظاهر والأحكام السريعة ونُدين الآخرين دون تروًّ أو استشارة القلب والمشاعر الإنسانية؟ كم من الشرور التى نُلصقها بالغير سواء أكانوا من الجيران أو زملاء العمل حتى من الأسرة ذاتها؟ كم من المرات التى فيها اتهمنا الآخرين ظلماً وشوّهنا سمعتهم ولن نستطيع محو هذه الاتهامات أو العيوب عنهم؟ كم من المرات التى فيها اعتبرنا أننا أذكياء نفهمها وهى طايرة ونستطيع أن نُقيّم كل شخص ونعرف ما بداخله وحقيقته؟ كل هذه الطرق تجعلنا نصنع شِباكاً لنصطاد بها الآخرين ونغلق عليهم حتى أنهم لا يستطيعون الإفلات أو الهروب منها ثم ينغلقون على ذاتهم لأننا سببنا لهم يأساً وخوفاً من المجتمع. لذلك علّمنا السيد المسيح قائلاً: «لا تدينوا لئلا تُدانوا، فكما تدينون تُدانون، ويُكال لكم بما تكيلون» (متى 7 : 1 – 2). لذلك يجب علينا أن نستغل الذكاء الذى وهبنا الله إياه من أجل الخير، وأن نميّز بين الذكاء والمكر، لأن الأول هو كمال العقل؛ بينما الثانى هو رذيلة تدفع الإنسان ليبحث عن مصالحه الشخصية ورفاهيته فقط، فالذكاء سمو ولكن المكر غلظة. ونستطيع بالذكاء الذى هو فضيلة العقل والإدراك أن نسيطر على غريزة الأنانية والمصالح الشخصية، أما المكر الذى يرتدى رداء الذكاء، هدفه الانتصار على الخصم وأن يطأ كل شخص وكل شيء يعتبره عائقاً لمصالحه الشخصية. كتب البابا يوحنا بولس الثاني: «الإيمان والعقل جناحان تستطيع بهما الروح البشرية أن تسمو لتصل إلى معرفة الحق». إذاً يستطيع الإنسان أن يجد طريقاً آخر للوصول إلى المعرفة بجانب العقل، وهو طريق الحُب الذى يستطيع به أن يدرك ما وراء العقل. وتقول الكاتبة الفرنسية George Sand فى هذا الصدد: «العقل يبحث ولكن القلب يجد». إذاً يجب على الإنسان أن يعى جيداً بأنه مخلوق محدود، وينبثق نور معرفته من العقل والقلب معاً حتى وإن لم يصل إلى الحقيقة كلها. قال المعلّم لأحد تلاميذه: «هل أنت مُعجب بذكائك؟»، أنت كالمحكوم عليه والسعيد لسعة مساحة زنزانته المحبوس فيها». هذا واقع لأن عقلنا كالزنزانة التى لا تستطيع أن تحتوى كل شيء مهما كانت فسيحة، فالحقيقة من الله، إذاً غير محدودة، وكل ما نستطيع أن نصل إليه هو ذرات وومضات وشظايا. لذلك ليس من الحكمة أن نحتقر الحجرة الصغيرة التى ندير بحثنا فيها، وأن نقلل من شأن الذكاء الذى منحنا إياه الله كعطية منه. وعندما طلب التلميذ من المعلّم أن يساعده للحصول على الحكمة، أجابه: «اذهب واجلس وصومعتك ستعلّمك الحكمة»، ورد التلميذ قائلاً: «ليست لديّ صومعة لأننى لست راهباً!» فقال له المعلّم: «من المؤكد أنك تملك الصومعة، انظر بداخلك». نتعلّم من هذا الدرس أننا نعيش فى هذه الدنيا دون اللجوء للعقل فقط أو احتقار الذكاء الذى هو عطية من الله، ولكن يجب أن نشعر بأننا كلما ازددنا معرفة، كلما عطشنا إلى المزيد منها، لأنه مع المعرفة ينمو الإحساس فى داخلنا بقلّتها. كما أننا نجد من يريد أن يتبحّر فى المعرفة والعلم من أجل ذاته فقط، ولا يهتم بما يعود على الجنس البشرى من نفع؛ ونجد مَنْ يتحلّون بالذكاء ولكنهم يتعالون على الآخرين مقتنعين بأنهم يملكون مفاتيح الوجود والحقيقة ويحتقرون آراء الآخرين، لكن الحكمة الحقيقية تقود صاحبها إلى الشعور بأن المعرفة التى يمتلكها جزء مما يمتلكه الجميع، وهذه الحكمة تقوده إلى التواضع والقناعة بمحدوديته وإمكاناته البسيطة، لذلك يقول الفيلسوف باسكال: «يجب أن نتّبع أيضاً أفكار القلب، ونتجنب مبالغتين: استبعاد العقل أو الاستسلام له». فالإنسان قليل بنفسه كثير بالآخرين، إذاً يجب أن يتعلّم من الغير، وأن يتجنب استخدام ذكائه للحكم على الآخرين وإدانتهم أو التقليل من شأنهم. ونختم بكلمات باسكال: "من الممكن أن يكون العقل أبطأ من القلب فى إدراك الحقائق".