عادل حمودة يكتب: خبايا عملية الكافيار الأسود
بوتين سيطر على رجال الأعمال الروس فى مخبأ ستالين بعد تهديدهم بالسجن أو الجوع
مليارديرات القيصر سيطروا على ترامب وعائلته ورجاله انتقاما من هيلارى كلينتون ودفعوا به إلى البيت الأبيض
توصف رئاسة ترامب بمسرح الصدمات.. حيث كل المشاهد مفاجآت.. تتوقف على مزاج البطل وحالته النفسية والهضمية.
صحيح أن المسرح اسمه المسرح الديمقراطى.. ولكن.. النظام الداخلى فيه نظام ديكتاتورى.. الممثل الأول فيه ملهم.. معصوم.. يعتقد أن العناية الإلهية أرسلته لينقذ الشعب الذى يحكمه من الفقر.. ويأخذه إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
أعاد ترامب إحياء مسرح الشخص الواحد الذى دفن فى مقبرة لويس الرابع عشر بعد أن كتب عليها: هنا يرقد مجنون تصور أنه وحده الدولة.
وكرر ترامب فضائح آخر ملوك فرنسا السياسية وانحرافاته الجنسية ولكنه بالقطع لن يكون آخر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.
لا ينزعج ترامب من اعترافات العاهرات اللاتى لم يشهدن بفحولته وإنما ارتعشن خوفا على حكمه من اتهامات التدخلات الروسية التى حملته على جناح الروبل إلى البيت الأبيض.
وما دام الروبل كان السلاح الصاعق فإن أفضل من يستخدمه هم رجال الأعمال الذين صنعهم بوتين لتدمير خصومه فى الداخل وتوسيع نفوذه فى الخارج.
قبيل أيام من ترشح ترامب للرئاسة (فى صيف 2016) اختار بول مانفورت لقيادة حملته الانتخابية وفى تلك اللحظة تفتحت شهية الملياردير الروسى أوليج ديريباسكا لإعادة السيطرة على مستشاره الأمريكى السابق.
عمل مانفورت عشر سنوات مع ديريباسكا لدعم صفقاته التجارية فى أوروبا الشرقية وكسب من ورائه الكثير.
بإشارة من بوتين أعاد ديربياسكا اتصالاته برجله القديم مانفورت للتدخل فى حملة ترامب وتبادل معه رسائل إلكترونية.. استخدم فيها تعبير الكافيار الروسى شفرة سرية بينهما.. وكشفت فيما بعد.. وأصبحت أهم وثيقة تحت يدى روبرت ميللر.. المحقق العنيد الذى يسعى جاهدا للتخلص من ترامب.. وطرده من البيت الأبيض.
أظهرت تحقيقات موللر كيف تسلل هاكرز روس بتمويل من ديريباسكا إلى بريد هيلارى كلينتون الإلكترونى وسرقوها وسربوها واستخدموا وسائل التواصل الاجتماعى لتشويه سمعتها الشخصية والسياسية.
وفى الوقت نفسه قدم الدبلوماسيون الروس المساعدة إلى مستشارى ترامب الذين كانوا متلهفين للحصول على معلومات تضر بفرص منافسته.
ولكن الأهم أن بوتين دعا رجال الأعمال فى بلاده لدعم ترشح ترامب للرئاسة واقترح ذلك فى مؤتمر صحفى عقده مع ترامب فى هلسنكى يوم 16 يوليو 2016 بما يخالف التقاليد والأعراف الدولية خاصة أن الرئيس الروسى حول أغنى الأغنياء فى بلاده إلى شبكة مخلصة من الأتباع تنفذ رغباته مقابل صفقات مربحة يحصلون عليها وتحميها الحكومة.
وخلال سنوات حكمه التى تقترب من العشرين عاما نجح مليارديرات بوتين فى تجنيد سياسيين على أعلى مستوى فى الإدارة الأمريكية بما يكفى للتأثير فى سياساتها وبما يحقق المصالح الروسية.. هذه القطط تحب إيصال الفئران الميتة إلى الكرملين على حد تعبير مارك جيلوتى الخبير المتخصص فى متابعة نمو نفوذ بوتين دوليا.
كانت عائلة ترامب أهدافا سهلة لمليارديرات بوتين.. فى عام 2014 استضاف أحدهم أيفانكا وزوجها كوشنر كبير مستشارى ترامب.. ودفع آخر 500 الف دولار إلى مايكل كوهين محامى ترامب.. ونفذ ثالث عملية دعائية تشجع الناخبين على اختيار ترامب.. ورتب رابع اجتماع قدم فيه محام روسى المعلومات المسيئة عن هيلارى كلينتون إلى مساعدى ترامب.
بدأت الولايات المتحدة فى الرد.. فى فبراير الماضى وجهت وزارة العدل اتهاما إلى إيفينجى بريجوزين لدوره فى التأثير على وسائل التواصل الاجتماعى فى عام 2016 وفى إبريل التالى حاصرت وزارة الخزانة ديربياسكا وفيكتور فيكسلبيرج بتجميد أموالهما.
أظهرت السجلات القانونية إلى أى مدى اخترق رجال بوتين حملة بوتين والسباق الرئاسى الأخير ولكنهم يقولون: إنهم لم يرتكبوا خطأ وهم يدافعون عن مصالح روسيا ولكنهم لم يكشفوا عن مدى سيطرة بوتين عليهم.
خلال الشهور الأولى لتوليه الرئاسة رتب بوتين فى يوم دافئ من عام 2000 لقاءً مع أغنى الرجال فى بلاده على حفل شواء بعيدا عن موسكو رتبه سيرجى بوجاتشوف المصرفى المقرب من الكرملين.
تصوروا أن بوتين سيكون من السهل تحريكه بين أصابعهم وأنه لن يقدر على تحدى سيطرتهم على الحكومة والميديا وأسواق المال ولكن بوتين كان سريعا فى تصحيح هذا الاعتقاد.
اختار بوتين مكان اللقاء فى داشا ستالين.. مخبأ الديكتاتور السوفيتى لمدة عقدين قبل وفاته.. وكان يضع فيه قوائم أعدائه الذين سيرسلهم إلى سيبيريا.. وعرف المكان باسم التطهير العظيم فى إشارة رمزية من بوتين لما سيكون عليه.
جلس بوتين على مكتب ستالين بينما كان رجال الأعمال يعبرون البوابات وفى هذا الجو المقبض لم يجرؤ أحد منهم على تحدى الرئيس الشاب الجديد.. بل كانت كل أمنياتهم أن يتركهم فى حالهم.
كانت رسالة بوتين إليهم: أنتم أقوياء ولكن قوتكم لا تقارن بقوتى ولكن ميخائيل خودورفيسكى إمبراطور النفط والميديا والمسيطر على البرلمان (الدوما) لم يتقبل الرسالة فلفقت له قضية تهرب ضريبى سجن بسببها عشر سنوات.
استوعب الآخرون الدرس جيدا وأدركوا أن مصيرهم مرتبط بمزاج بوتين فاستسلموا إليه ووضعوا أنفسهم فى خدمته ونفذوا أوامره وكأنهم سعاة فى مكتبه ودفعوا مستحقاتهم للدولة بالطريقة التى ترضيه وتسعده.
عندما قرر بوتين فى عام 2012 أنه يرغب فى استضافة قمة سياسية على جزيرة مهجورة شرقى روسيا أنفق أراس أجاروف 100 مليون دولار من ماله الخاص لبناء المنشآت والقاعات ورصف الطرق المطلوبة.
بعد إدانته بالاحتيال حقق بريجوزين نجاحا سياسيا عندما اختار بوتين مطعمه نيو آيلاند فى سانت بطرسبرج ليدعو إليه أصدقاءه وضيوفه الأجانب ليفوز بريجوزين بعدها بعقود توريد الطعام إلى الكرملين والجيش الأحمر وحمل لقب كبير طهاة بوتين ولكنه فى المقابل لعب دورا رئيسيا فى الحملات العسكرية الروسية فى الخارج بدعم مجموعة تسمى فاجنر وهى جماعة عسكرية خاصة أرسلت مقاتلين إلى سوريا وأوكرانيا وقامت بمهام خطيرة بعيدا عن مسئولية القوات الروسية النظامية.
ومول بريجوزين وكالة أبحاث إلكترونية لها مئات الحسابات المزيفة على سوشيال ميديا تروج للكرملين أو تواجه خصومه.
ولكن الاختراق الأكثر حساسية هو ما قام به فيكسليبرج الذى وجه بعضا من أرباحه فى النفط والمعادن إلى التكنولوجيا بأمر من بوتين لعقد صفقات مع شركات أمريكية فى سيلكون فالى بمليارات الدولارات فى عام 2010 مما أثار انتباه مكتب التحقيقات الفيدرالية فأصدر فى عام 2014 تحذيرا غير مألوف أشارت فيه إلى أن مؤسسة فيكسلبيرج مؤسسة حكومية روسية تستهدف الاستيلاء على أسرار تكنولوجيا المعلومات الأمريكية المتطورة.
على أن الأخطر بالنسبة للحكومة الأمريكية كان ديريباسكا الذى ألغت تأشيرته عام 2006 لارتباطه بالمافيا الروسية وغسل أمواله فى صناعة الألمونيوم حتى سيطر عليها ولكن رغم حرمانه من دخول الولايات المتحدة فإنه نجح فى تطوير علاقاته مع أقوى مجموعات الضغط فيها ومنها مانفورت وشريكه ريك ديفيز قدمت إلى ديربياسكا الكثير من أعضاء مجلس الشيوخ ومنهم دون ماكين وقت أن كان يحتفل بعيد ميلاده السبعين فى منطقة الجبل الأسود البلقانية.
منحت الشراكة بين مانفورت وديريباسكا للكرملين فرصا مذهلة للتأثير فى الأحداث السياسية التى تعيشها واشنطن وعواصم أوروبية فى خطة وضعت عام 2005 لتدريب قادة جدد ستعتمد عليهم حكوماتهم فى المستقبل.
غطت شبكة العلاقات التى زرعها رجال أعمال بوتين خلال سنوات حكمه كل مجالات النفوذ فى الداخل والخارج ولم تكن صدفة أن ترامب وقع فى حبالها.
أراد ترامب بناء فندق بالقرب من الساحة الحمراء خلال زيارته الأولى لموسكو عام 1987 وخضع فيها للمراقبة ولكن المشروع لم ينفذ ولكن أعيد التفاوض حوله بعد ربع قرن مع أجاروف رجل الأعمال المقرب من بوتين.
فى خريف عام 2013 تعاون أجاروف مع ترامب لتقديم مسابقة ملكة جمال الكون فى موسكو وكانت النتيجة خطة لبناء مجمع يضم فنادق ومراكز تسوق بنحو ثلاثة مليارات دولار ووافق بنك سبير على تمويل 70 % من المشروع ولكن طموحات ترامب السياسية أوقفت المشروع.
مع اقتراب موعد الانتخابات زادت اتصالات عائلة أجاروف مع عائلة ترامب.. واجتمع ايمين بن أجاروف مع دونالد بن ترامب فى يونيو 2016 فى الطابق الخامس والعشرين من برج ترامب فى مانهاتن بغرض تقديم معلومات إلى كبار مستشارى ترامب ومنهم مانفورت وكوشنر تسىء إلى هيلارى كلينتون قدمتها محامية لها علاقات وثيقة مع المخابرات الروسية هى ناتاليا فيسيلنتسكايا ولكنها نفت ذلك.
لم يكشف موللر فى تحقيقاته عن النتائج التى توصل إليها بشأن ذلك الاجتماع ولكن دور عائلة أجاروف فى هذه القضية يظهر مدى عمق اتصالاتها مع عائلة ترامب.
ولكن موللر كشف عن حصول فيكسليبرج على دعوة لحضور حفل تنصيب ترامب بفضل ابن عمه أندرو إنتراتر الذى تتمتع شركته الأمريكية كولومبس نوفا باستثمارات كبيرة فى تكنولوجيا المعلومات ودفعت الشركة 500 ألف دولار إلى كوهين محامى ترامب مقابل استشارات قانونية بعد فوز ترامب بالرئاسة.
وتظهر الوثائق التى حصلت عليها مجلة تايم أن كارتر بايج مستشار ترامب للسياسة الخارجية (من مارس إلى سبتمبر 2016) سعى للتواصل مع فيكسلبيرج عبر وسطاء فى عام 2013 حينما كان يسعى إلى تأسيس شركة للغاز الطبيعى ودعا رجل الأعمال الروسى للمشاركة فيها من خلال شركته العملاقة فى مجال الطاقة جازبروم ووقعا معا مذكرة تفاهم على عشاء فى 3 يوليو من ذلك العام.
لم يكن رجال بوتين فى حاجة إلى تعليمات مباشرة لمساعدة ترامب ليفوز على كلينتون التى سبق أن انتقدت بوتين بعنف.
ولكن الثمن الذى دفعوه للتدخل فى الانتخابات الأمريكية كان على الأرجح أعلى مما توقعوه.. العقوبات التى فرضت على العديد منهم صعب احتمالها.. ووصلت إلى 16 مليار دولار.. بجانب تأثر سمعتهم فى أسواق المال والبنوك الغربية بما يضعف من حجم أعمالهم الخارجية لعدة سنوات قادمة.
على أن الفائز الوحيد فى هذه القصة هو بوتين.
بتصريف خاص عن مجلة تايم
بمشاركة: مي سمير