منال لاشين تكتب: الدراسة من أجل عيون الهجرة
لماذا تراجعت الجامعة الأمريكية؟ ولماذا يكره المسئولون جامعة القاهرة والتعليم الحكومى؟
لم يخصص الدكتور جلال أمين فصلاً خاصًا للتعليم فى كتابه المهم (ماذا جرى للمصريين) ولكنه درس هو وإخوته درسوا بالجامعة المصرية، وبالمثل فان كل رجال عائلتى درسوا فى جامعة القاهرة، ولم أعرف أحدًا فى عائلة أمى وأبى درس فى الجامعة الأمريكية حتى الثمانينيات من القرن الماضى، ولم تكن إجادة اللغة الإنجليزية هى الحاجز فلغة أبى رحمه الله كانت أفضل من خريجى الكثير من مدارس اللغات الآن، ولكننا كأسرة ريفية لم نفكر فى الاقتراب من الجامعة الأمريكية، ولكن بطلة رواية إحسان عبد القدوس (أنا حرة) اختارت الجامعة الأمريكية لأنها لا ترغب فى معاشرة المصريين من أهل شبرا أو الطبقة المتوسطة فى الأربعينيات من القرن الماضى، وفى الستينيات اضطر الزعيم جمال عبد الناصر إلى إلحاق ابنته «منى» بالجامعة الأمريكية لأنها لم تحصل على مجموع يؤهلها للالتحاق بجامعة القاهرة مثل أختها الكبرى «هدى»، إذن كانت الجامعة الأمريكية فى مصر للخايبين والمقلدين للأجانب.
1- انقلاب الانفتاح
التحقت بالجامعة عام 1984 وكنت من المتفوقين، وكان مفهوم التفوق هو كسر حاجز الـ80% ولم تكن الـ90% متوفرة إلا لأوائل الجمهورية المعدودين، وعندما حصلت على 84% رياضة كانت كليات القمة الهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام والألسن أمامى، فاخترت الإعلام، فى ذلك الوقت كان نجم الجامعة الأمريكية قد علا فى سماء التعليم، وكانت جامعة القاهرة تحاول باساتذتها وتاريخها الصمود أمام منافسة الجامعة الأمريكية، ولاشك أنه لولا الانفتاح الاقتصادى لما علا نجم الجامعة الأمريكية وذلك رغم الأعداد القليلة للطلاب والتدريب الجيد، ولكن الانفتاح الاقتصادى خلق سوقا أو بالأحرى طلبا على خريجى الجامعة الأمريكية، لأنهم يجيدون الإنجليزية ولأنهم يدرسون الطريقة الأمريكية فى التسويق والمحاسبة وغيرها من أدوات السوق الرأسمالية، ومن ناحية أخرى أنهى الانفتاح الاقتصادى على قدرة أستاذ جامعة القاهرة وأخواتها على مواجهة الطوفان، فارتفاع الأسعار وغياب الشقق الإيجار وانفتاح السوق بآلاف المنتجات أجبر الأساتذة على الهجرة للخارج أو العمل بالجامعات الأخرى وعلى رأسها الجامعة الأمريكية، وكانت الجامعة الأمريكية فى ذلك الوقت تضمن مجموعة من أفضل أساتذة مصر وأساتذة أجانب، وإن قل الأجانب خاصة بعد ثورة 25 يناير.
ولم تستطع الجامعات الخاصة الأخرى لا البريطانية أو الألمانية منافسة الجامعة الأمريكية إلا أن قرار تعويم الجنيه وضع الجامعة الأمريكية فى مأزق، فارتفعت مصروفاتها بدرجة خرافية حتى وصلت الآن لكسر الـ 300 ألف جنيه، ولذلك زاد عدد من يرفضون إلحاق أبنائهم بالجامعة الأمريكية التى لا تحتل مركزا قويا ولا متقدما فى قوائم أفضل الجامعات وتتطلب أموالا كثيرة، ويقل فيها عدد الاساتذة الأجانب، الآن يفضل الكثيرون من الطبقة الثرية والطبقة فوق المتوسطة أن يسافر أولادهم للتعليم بالجامعات الأجنبية بما فى ذلك أبناء الجامعة الأمريكية نفسها، فالأثرياء يدفعون ضعف مصروفات الجامعة الأمريكية فى جامعات الصفوة والتى تجمع بين التدريب والبحث العلمى، بينما يتجه أبناء الطبقة فوق المتوسطة إلى جامعات أوروبية أقل فى المصروفات من الجامعة الأمريكية من ناحية وأفضل فى الترتيب العالمى للجامعات من ناحية أخرى.
بل إن بعض أصدقائى يفضلون الآن إلحاق أطفالهم بالتعليم الألمانى أو الفرنسى بدلا من التعليم البريطانى أو الأمريكى، وذلك لأن الجامعات فى كل من فرنسا وألمانيا مجانية، ولذلك يجهز هؤلاء الأصدقاء فرصة لأبنائهم للتعليم الجامعى فى فرنسا أو ألمانيا، لأنه يستطيع الإنفاق عليه فى كل من الدولتين بأموال أقل بكثير من مصروفات الجامعة الأمريكية، ولاشك أن هذه المعادلة ليست فى صالح الجامعة الأمريكية على المدى المتوسط والبعيد.
2- اضطهاد للعام
ظل خريجو الجامعة الأمريكية يتصدرون المشهد الاقتصادى أو بالأحرى البيزنس ولم يكن لهم تواجد يذكر على الساحة السياسية، ولكن الوضع تغير مع ثقل نفوذ سوزان مبارك خريجة الجامعة وابنها جمال مبارك، وفتح الباب أمام خريجى الجامعة لتفضيلهم فى العمل السياسى.
ولكن فى المقابل امتنعت الدولة بكل مؤسساتها عن مساندة الجامعة الأكبر والأهم وأقصد جامعة القاهرة.
فبعد أكثر من ثلاثين عاما على تخرجى فى كلية الإعلام والتى لم أدفع فى تعليمى الجامعى كله مبلغاً يتعدى 2000 جنيه كان علينا أن نواجه مشكلة التحاق ابن أختى سامح بالجامعة، حصل سامح على 99.5% فى الثانوية العامة وكان يرغب فى دراسة الاقتصاد، وكانت الجامعات الحكومية قد انهارت بفعل إهمال إصلاح التعليم إلاكليات قليلة، وكانت الشهادة الجامعية الأجنبية قد صارت مفتاح العمل، ولم نجد أمامنا حلا أو بالأحرى أملا سوى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية قسم الإنجليزى، وكان ولايزل من أفضل الخيارات الجامعية ويدرس معظم مناهج الجامعة الأمريكية فى الاقتصاد، ودفعنا مصروفات للقسم فى العام نحو 8 آلاف جنيه مقابل أكثر من 80 ألف جنيه للجامعة الأمريكية، وبعد تخرج ابن أختى من الجامعة وقبوله فى دبلوم الاقتصاد بجامعة كامبرديج وهى من أهم الجامعات فى العالم، أننى سألته ماذا تعلمت فى كلية الاقتصاد فأجاب بسرعة: تعلمت أننى يجب أن أتعلم الكثير خارج الجامعة، وهذه إجابة نموذجية فى صالح الكلية، وكان سامح يقضى معظم الإجازة الصيفية فى التدريب والالتحاق بالدورات التى تؤهله بما فاته فى الكلية،
وتجربة الأقسام الإنجليزية فى الكليات الحكومية تجربة مهمة لأنها تخدم أمثالنا من أبناء الطبقة فوق المتوسطة وتتيح لأبنائهم إيجاد فرصة عمل.
ولكن بعد سبع سنوات لم نجد تلك الفرصة لابن أختى الثانى كريم عاشق الفنون، حصل كريم على مجموع 97% فى الثانوية العامة من مدرسة لغات كأخيه، ولكنه لم يجد قسمًا إنجليزيًا فى كلية الفنون الجميلة، وأذكر أنه عاد من زيارة للكلية وهو يكاد يبكى، فالأجهزة متهالكة والتدريب العملى قليل، وهو قبل وبعد ذلك يخشى نسيان اللغة الأجنبية من ناحية والتخرج من جامعية حكومية من ناحية أخرى، هذه المرة لم يسعفنا سوى الجامعات الخاصة وكان علينا أن نتحمل مصروفات الجامعة حتى نضمن له مكانا فى المستقبل.
ولا أدرى لماذا لا تتوسع الحكومة فى أقسام اللغة الإنجليزية بالكليات الحكومية بحيث تقدم بديلا للطبقة التى أدخلت أولادها مدارس لغات ولا تملك تحمل مصروفات الجامعة البريطانية أو الأمريكية وأخواتها.
هل المطلوب أن تظل جامعة القاهرة على حالها المريض؟ فقد لاحظت أن محاولات وزير الاستثمار السابق الدكتور محمود محيى الدين وابن جامعة القاهرة لتطوير الجامعة قبل ثورة 25 يناير لم تقابل بإعجاب من قبل بعض كبار المسئولين فى الحكومة أو الحزب الوطنى المنحل، وكان محمود محيى الدين قد تبرع بأرض ملك إحدى الشركات القابضة التابعة للوزارة لجامعة القاهرة للمعامل وتطوير الجامعة، كما شارك مع جمعية المصرى فى إيفاد المبعوثين للخارج وإصلاح المستشفيات الحكومية وترجمة الكتب العلمية المهمة، ولكن كل هذه الجهود كانت فردية وتوقفت برحيل محيى الدين عن الوزارة ومصر للبنك الدولى، مثلما تظل جهود أبناء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جهوداً فردية للحفاظ على المستوى العلمى للكلية، وهى جهود تهددها الوزارة بإصرارها على فتح كليات مناظرة للكلية المتفردة الفريدة التى لا تزال قادرة على تقديم خريج متميز.
وأعتقد أن هناك تجاهلاً ولم أقل مؤامرة ضد التعليم الجامعى الحكومى فعلى الرغم من كل شىء يمكن أن نخلق منارات وأقسام متميزة ومنارات فى جامعة القاهرة والجامعات الحكومية الأخرى، أما نظرية انتظار الإصلاح الشامل فالمستفيد الوحيد منها هى الجامعات الخاصة والأجنبية التى تستوعب آلافاً من الطلاب بمئات الألوف من الجنيهات.
وكل عام وأنتم بخير، عام دراسى سعيد.