قِوامة الرجل على المرأة في الإسلام
من الأحكام الشرعية التي تنظم الحياة الزوجية قوله عز وجل: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} (النساء:34) تضمنت هذه الآية جملة من الأحكام المتعلقة بالحياة الزوجية، نقف عليها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {الرجال قوامون} (قَوَّام) فعَّال للمبالغة، من القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد، فالرجال قوامون على النساء، يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية، وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية.
المسألة الثانية: قوله سبحانه: {بما فضل الله بعضهم على بعض} أي: إن الله سبحانه جعل القِوامة للرجل على المرأة؛ لتفضيل الرجل عليها في ثلاثة أشياء:
الأول: كمال العقل والتمييز.
الثاني: كمال الدين والطاعة في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العموم، وغير ذلك. وهذا الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن. قلن: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: أليس إحداكن تمكث الليالي لا تصلي ولا تصوم؛ فذلك من نقصان دينها. وشهادة إحداكن على النصف من شهادة الرجل، فذلك من نقصان عقلها) متفق عليه. وقد نص الله سبحانه على ذلك بالنقص، فقال: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (البقرة:282).
الثالث: بذله المال من الصداق والنفقة، وقد نص الله عليها ها هنا بقوله: {وبما أنفقوا من أموالهم}.
المسألة الثالثة: دلَّ قوله عز وجل: {وبما أنفقوا من أموالهم} على أن نفقة الزوجة على زوجها، وهو نظير قوله سبحانه: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة:233) وقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} (الطلاق:7)، وأيضاً فإن قوله سبحانه: {وبما أنفقوا من أموالهم} يشمل المهر والنفقة؛ لأنهما جميعاً مما يَلزم الزوج للزوجة. وفهم العلماء من قوله عز وجل: {وبما أنفقوا من أموالهم} أنه متى عَجَز الزوج عن نفقة زوجته، لم يكن قوَّاماً عليها، وإذا لم يكن قوَّاماً عليها، كان لها فسخ العقد؛ لزوال المقصود الذي شُرِع لأجله النكاح. قال القرطبي: "وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (البقرة:280).
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {فالصالحات قانتات حافظات للغيب} هذا كله خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج، والقيام بحقه في ماله، وفي نفسها في حال غيبة الزوج.
المسألة الخامسة: قوله عز وجل: {واللاتي تخافون نشوزهن} (النساء:34): قال ابن عباس رضي الله عنهما: {تخافون} بمعنى تعلمون وتتيقنون. يعني امتناعهن منكم؛ عبَّر عنه بالنشوز، وهو من النشز: المرتفع من الأرض، وإن كل ما امتنع عليك، فقد نشز عنك. وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد من خوف النشوز هنا: ظهور أمارات تدل على النشوز، إما بالخشونة وسوء الخلق، وإما بإخلاف عادتها في حسن طاعتها ولين عشرتها، فأمر الله سبحانه الرجال بوعظ الأزواج عند خوف نشوزهن.
المسألة السادسة: قوله تعالى: {فعظوهن} المراد التذكير بالله في الترغيب لما عنده من ثواب، والتخويف لما لديه من عقاب، إلى ما يتبع ذلك مما يُعرِّفها به من حسن الأدب في العشرة، والوفاء بجميل الصحبة، والقيام بحقوق الطاعة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها.
المسألة السابعة: قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} اختلف المفسرون في المراد بالهجران في الآية على أقوال:
فمنهم من قال: هو أن ينام معها، لكن يوليها ظهره، ولا يجامعها، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. وقال مجاهد وكثير من التابعين: المراد اعتزال النوم معها، وهذا مروي عن مالك، واختاره ابن العربي، وعقب القرطبي على هذا القول بقوله: "هذا قول حسن؛ فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها، فيتبين أن النشوز من قبلها. وثمة من قال: إن المراد بالهجر هنا تغليظ الكلام لهم، من غير ترك مضاجعتهن وجماعهن".
وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسرَّ إلى حفصة رضي الله عنها أمراً، فأفشته إلى عائشة رضي الله عنها، وتظاهرتا عليه. ولا يبلغ به الأربعة الأشهر.
المسألة الثامنة: قوله عز وجل: {واضربوهن} (الضرب) في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظماً، ولا يعطل عضواً، كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الإصلاح لا غير. فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك، وجب الضمان. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيها الناس! إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً؛ لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله تعالى قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم. قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال بالسواك ونحوه.
وقال ابن العربي: "وفي هذا دليل على أن الناشز لا نفقة لها، ولا كسوة، وأن الفاحشة هي البذاء، ليس الزنا كما قال العلماء، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الضرب، وبيَّن أنه لا يكون مُبَرِّحاً، أي لا يظهر له أثر على البدن، يعني من جرح، أو كسر".
وقد قال القرطبي: "إن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحاً إلا هنا وفي الحدود العظام، فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر، وولَّى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات؛ ائتماناً من الله تعالى للأزواج على النساء".
ثم قال العلماء: "ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد، وأن يتقي الوجه؛ فإنه يجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه". وقد سئل صلى الله عليه وسلم: ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود. ومع أن الضرب مباح، فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل؛ لقوله عليه السلام: (ولن يضرب خياركم) رواه الحاكم في "المستدرك"، والبزار في "مسنده"، والبيهقي في "السنن الكبرى".
المسألة التاسعة: الأمر بهجرهن وضربهن، إنما يكون عند ظهور النشوز وتحققه والإصرار عليه، لا عند خوفه؛ فإن ظهور أماراته لا يبيح الضرب؛ لاحتمال تخلف الأمارات والخطأ فيها، فقد يكون ذلك منها لغمٍّ، وضيق صدر.
المسألة العاشرة: اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة، هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟
فقال جماعة من أهل العلم: إنها على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، ثم الضرب، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز، وهذا مذهب أحمد، ومذهب الشافعي جواز ضربها في ابتداء النشوز. قال ابن العربي: "من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير؛ قال: يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع". وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك؛ فإنه قال: "يعظها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين".
وقال عطاء: "لا يضربها، وإن أمرها ونهاها، فلم تطعه، ولكن يغضب عليها". وعقب ابن العربي على قول عطاء بقوله: "هذا من فقه عطاء؛ فإنه من فهمه بالشريعة، ووقوفه على مظان الاجتهاد، علم أن الأمر بالضرب ها هنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه، ولعله أن يضاجعها من يومه) رواه الدارمي في "سننه" قال محقق السنن: إسناده صحيح.
وعن مالك عن يحيى بن سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استؤذن في ضرب النساء، فقال: (اضربوا، ولن يضرب خياركم). فأباح الضرب، وندب إلى الترك. وإن في الهجر لغاية الأدب. قال ابن العربي: "والذي عندي أن الرجال والنساء لا يستوون في ذلك؛ فإن العبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة؛ ومن النساء، بل من الرجال من لا يقيمه إلا الأدب، فإذا علم ذلك الرجل فله أن يؤدب، وإن ترك فهو أفضل".
المسألة الحادية عشرة: قال القرطبي: "دلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم؛ فإذا حفظن حقوق الرجال، فلا ينبغي أن يسئ الرجل عشرتها". وقال بعض أهل العلم: "النشوز يُسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها، فإذا رجعت عادت حقوقها، وكذلك كل ما اقتضى الأدب، فجائز للزوج تأديبها. ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة، فأدب الرفيعة اللوم، وأدب الدنيئة السوط". وقال ابن المنذر: "اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعاً بالغين، إلا الناشز منهن الممتنعة". وقال ابن عبد البر: "من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملاً. وإذا عادت الناشز إلى زوجها، وجب في المستقبل نفقتها. ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز، لا من مرض، ولا حيض، ولا نفاس، ولا صوم، ولا حج، ولا مغيب زوجها، ولا حبسه عنها في حق، أو جور غير ما ذكرنا".
المسألة الثانية عشرة: حاصل الأوامر في الآية هنا: أن الأمر بالوعظ محمول على الاستحباب، وبالهجران محمول على التأديب، وبالضرب محمول على الإباحة.