بطرس دانيال يكتب: عين الحب
«ليس هناك رادار أقوى من المحبة، ولا عطر أطيب منها. ويُخطئ مَنْ يقول إن الجمال يزول ولكن المحبة تبقى. فالجمال لا يزول إلا إذا ذهبت المحبة». يحكى الكاتب المتصوف فريد الدين العطار (1142-1230) أن رجلاً حظى على فرصة ذهبية للسُكنى مع معلّمٍ حكيم لعدّة أيام، وعندما حانت ساعة الرحيل، طلب من المعلّم معروفاً قائلاً له: «أرجوك أن تكشف لى كل العيوب والمساوئ التى وجدتها فيّ، حتى أستطيع التخلّص منها». أجابه المعلّم: «كنتُ أنظرُ إليك طوال هذه الفترة بعين المحبة والأخوّة، فكيف أستطيع أن أرى عيوبك؟ اذهب إلى شخصٍ آخر لتعرض عليه هذا السؤال». نتعلّم من هذا الموقف أن المحبة الحقيقية والصادقة تذهب أبعد مما يراه العقل أو الحُكم الخارجى للأشخاص الذين نتقابل معهم كل يوم، وعندما تختفى المحبة، فنحن على أتم الاستعداد لاكتشاف حتى أتفه العيوب فى الآخرين، وحينما نجعل من أنفسنا ديانين فقط، سنكون جاهزين ومتربّصين لمراقبة الناس دون رحمة ولا شفقة، وفى اللحظة التى فيها نستسلم لحُكم العقل فقط، فمن السهل أن نصبح أشخاصًا هدفهم الوحيد هو وضع لائحة مكتوب عليها عيوب ونقائص الآخرين، لكنّ المحبّة الصادقة كالنار التى تمحو الشوائب من على الذهب ليعطى بريقاً أفضل. إذاً، عندما ننظر للآخر بعين المحبة، نستطيع أن نكتشف ما بداخله من طيبة وجمال وفضيلة. عندما نذهب لمشاهدة قبر أحد الملوك سنلاحظ تحلل جثمانه، ولكن ما تبقّى فقط هى الجواهر والحُلى التى وُضعت معه فى الصندوق، كما أنها شاهدة على شخصية الملك، وهذا ما ينطبق علينا عندما نحمل حول أعناقنا بريق العدل وعلى صدورنا جواهر الحُب، ويشتعل فى قلبنا النور الإلهى الذى لا ينطفئ أبداً مهما حلّ الظلام، ستظل هذه الجواهر بلمعانها وبريقها حتى بعد رحيلنا من هذه الدُنيا، فكنوز الملك مهما كانت باهظة الثمن وباقية، إلا أنها دنيوية فقط، لكن جواهر المحبة والرحمة والعدل ستبقى فى هذه الدنيا والحياة الأبدية. ما أجمل كلمات الشاعر Ezra Pound: «ما تحبّه بالفعل سيبقى ويدوم، أما الباقى نفاية، وكل ما تحبّه حقاً لن يُنزع منك، إذاً ميراثك سيكون كل ما تحبّه». فالحُب الصادق هو الشىء الوحيد الذى سيبقى، ولكن الأشياء الأخرى ستصير بخاراً، وكما يقول القديس بولس: «فالإيمانُ والرجاءُ والمحبةُ هى الثلاثة الباقية، وأعظمُها المحبة» (1كور 13:13). مما لا شك فيه أن الإنسان مُعرّض أن يفقد كل ما يمتلكه أو يُسلب منه، ولكن الحُب هو الشىء الوحيد الذى لن يُنزع منه. من الطبيعى أن نهتم بكتابة الوصية التى تخص ميراث الأبناء والأقارب ومن نحبّهم لتأمين مستقبلهم، ولكن الوَقْف الأعظم والباقى هو الحُب. ويجب علينا ألا نغفل أن المحبة الصادقة تتطلب الصمت والكتمان والخفاء، لأن الحُب الذى يصيح حتى يسمعه العالم، لا يثق فى ذاته، بينما الحُب الصادق لطيف ورقيق وهادئ. وكما يقول الفيلسوف باسكال: «إن الصمت فى الحُب أبلغ من الكلام». ومن يريد أن يرى جيداً جوهر الأشياء وحقيقتها؛ يجب أن يعتمد على عين القلب، لأن كل ما هو جوهرى وحقيقى لا تستطيع العين المجرّدة رؤيته. كما أن هناك خطوات مهمة للتحلّى بالحُب: فالخطوة الأولى هى ألا نكره أحداً، والثانية ألا يُسيطر علينا حُب التملّك، فخلاف ذلك لن نستطيع أن نكون أسخياء مع الآخرين، والخطوة الثالثة هى أن نتخلص من روح المصلحة، ولا ننتظر أجراً من الغير عن حُبنا، ثم نصل إلى الخطوة الأخيرة التى فيها نبسط حُبّنا على الأعداء أيضاً، وكما يقول مكسيموس المُعرّف أحد آباء الكنيسة: «افعل المستحيل لمحبة كل شخص، وإن لم تكن قادراً على ذلك، فلا تكره أحداً أبداً، ولن تستطيع القيام بذلك إلا عند بلوغك التجرد من مغريات العالم... فأحبّاء الله غير محبوبين من الجميع، ولكنهم يحبّون الكل بصدق». كما يجب ألا ننسى أن الله وضع بداخلنا بذرة الحُب، فعلينا أن نحتضنها ونزرعها ونسقيها ونغذّيها حتى نحصل على ثمارها اليانعة. إذاً يجب أن نتحلى بهذا الحُب الصادق، فلا سبيل إلى قتل العداوة إلا بالمحبة، لأن البغض يولّد الانتقام، وإذا تملّك فى القلب، يصير كالسرطان الذى ينهش جسد صاحبه ويقتل فيه المشاعر الإنسانية. ونختم بكلمات الجاحظ: «إذا كان الحُب يعمى عن المساوئ... فالبغض يعمى عن الحقائق والمحاسن».