إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي
الطُّفَيْل بن عَمْرو الدَّوْسي ـ رضي الله عنه ـ، صحابي جليل، كان زعيما لقبيلته دوس التى ينتمى اليها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وقد أسلم بمكة المكرمة في السنة العاشرة من البعثه النبوية، ورجع إِلى بلاده يدعو قومه إلى الإسلام، فلم يزل بها حتى هاجر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلى المدينة المنورة، فقَدِمَ عليه وهو بخيبر بمن تبعه وأسلم مِن قومه ومنهم أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ .. وقد سُمِّيَ ولُقِّب: بذي النور.
قال ابن حجر: " سبب تسمية الطفيل بذي النور أنه لما وفد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعا لقومه قال له: ابعثني إليهم واجعل لي آية، فقال: اللهم نور له، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مُثْلَةٌ ( مرض وعقوبة )، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء له في الليلة المظلمة".
إسلامه ـ رضي الله عنه ـ:
قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي ـ رضي الله عنه ـ رواها السيوطي في الخصائص الكبرى، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن هشام في السيرة النبوية، وقد رواها كذلك ابن كثير في البداية والنهاية قال: " قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها، فمشى إليه رجال قريش، وكان الطفيل رجلا شريفاً شاعراً لبيبا، فقالوا له: إنك قدمتَ بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تَكْلِمَنَّهُ وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوْت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا (قطنا) فرَقَاً (خوفا) من أن يبلغني شيء من قوله.
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبَىَ الله إلا أن يُسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلتُ في نفسي: وَاثُكْلَ أُمَّاه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني مِنْ أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبِلْتُ، وإن كان قبيحا تركت، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبَى الله ـ عز وجل ـ إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك، قال: فعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللهم اجعل له آية.
قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية ( ما انفرج بين الجبلين ) يقال لها كذا وكذا تطلعني على الحاضر (القبيلة النازلة على الماء)، وقع نور بين عيني مثل المصباح، قال: قلت: اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلَةٌ (مرض وعقوبة) وقعت في وجهي لفراق دينهم، قال: فتحول فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً، فقلت: إليك عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ مني، قال: لِم يا بُني؟، قلت: أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بني، فديني دينك، قال: قلت: فاذهب يا أبتِ فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت، قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتني صاحبتي (زوجتي) فقلت لها: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: لم، بأبي أنت وأمي؟، قلتُ: فرق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قالت: فديني دينك، قال: قلت: فاذهبي إلى حنى ذي الشرى فتطهري منه ـ وكان ذو الشرى صنما لدوس ـ، وكان للحنى حمى حوله وبه وشل (قليل) من ماء يهبط من جبل إليه، قالت: بأبي وأمي أتخشى علي الصبية من ذي الشرى شيئا؟، قال: قلت: لا، أنا ضامن لك، قال: فذهبت واغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت .
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا عليَّ (لم يستجيبوا) فجئت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقلت: يا نبي الله، إنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد دوسا، ثم قال: ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم، فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم بخيبر ـ، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين".
وفي قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي ـ رضي الله عنه ـ الكثير من الفوائد والعبر، ومنها:
الرحمة النبوية مع الكافرين:
لم تقف رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الكافرين عند الإعراض عنهم، والصبر على أذاهم، والحلمِ عن جهلهم، بل إنها تعدَّت ذلك إلى مجال أرحب وأفسح، تجلَّى في حرصه على دعوتهم وهدايتهم، وإنقاذهم من النار، فدعوة الكافر إلى الله ـ برفق وحكمة ـ، وتبليغه حقيقة الإسلام من أعظم صور الرحمة به والإحسان إليه، وهي قُرْبة إلى الله، وثمة فرق بين الدعاء للكافرين بالهداية والاستغفار لهم، فالأول جائز، والثاني لا يجوز، قال الله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (التوبة الآية: 113).
قال النووي: " وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع".
ولا شك أن دعاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمخالفيه من الكافرين صورة من صور الرحمة بهم، ولذلك لما طلب الطفيل ـ رضي الله عنه ـ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدعاء على قبيلته دوس لإعراضهم قائلا: ( فادع الله عليهم )، رد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على طلبه بقوله: ( اللهم اهد دوسا )، وصدق الله ـ عز وجل ـ القائل عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(الأنبياء الآية: 107).
الدعوة إلى الله:
لم يكن الطفيل ـ رضي الله عنه ـ من علماء الصحابة، ولا من رواة الأحاديث، لكن يكفيه فضلاً وشرفاً أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ أسلم على يديه، فقد كان ضمن السبعين عائلة الذين أسلموا على يد الطفيل ـ رضي الله عنه ـ وأتى بهم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيبر، ومن ثم فهو حسنة من حسناته، وكل ما جاء من الخير العظيم ونشر العلم ورواية الأحاديث التي رواها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي تزيد على خمسة آلاف حديث، في ميزان حسنات الطفيل ـ رضي الله عنه ـ.
ومن ثم فالدعوة إلى الله عبادة من أشرف العبادات، وعمل من أجَّلِّ الأعمال، والدعاة إلى الله الذين يرشدون الناس إلى الخير، ويبصرونهم بالحق في سيرة وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم قدرهم ومنزلتهم، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبيناً أجرهم: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) رواه مسلم، وقال: ( لَأَنْ يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمُرِ النَّعَمِ ) رواه البخاري، ومعنى حمر النعم: الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وهذا الخطاب باعتبار ما استقرّ عندهم من نفاسة ذلك وكرمه، وإلا فلا مناسبة بينه وبين الثواب المترتب على الهداية، وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرّة من الآخرة الباقية خير من الدنيا بأسرها.
الرِفق:
هو لين الجانب بالقول والفعل، والتلطف في اختيار الأسلوب والكلمات، وترك التعنيف والغلظة مع الناس وإن كانوا مخطئين، وهو أمر مطلوب من المسلمين بوجه عام، ومن الدعاة إلى الله والمربين بوجه خاص، فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم وتعليمهم، وفي جميع أحوالهم .. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفيقًا، ليِّنَ الجانب في القول والفعل، يدعو إلى الرفق في الأمر كله، ويُثني على من يتصف به، وقد وصفه الله ـ عز وجل ـ بقوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }(آل عمران من الآية:159)، وعن عائشة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه ) رواه مسلم، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إن الرفقَ لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزَع من شيء إلا شانه (عابه) ) رواه مسلم، ومن ثم أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطفيل ـ رضي الله عنه ـ بالرفق في دعوته لقومه، فقال له: ( ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم ).
السيرة النبوية زاخرة بالمواقف المضيئة التي تنير للدعاة إلى الله والمربين والمهتمين بالإصلاح الاجتماعي طريقهم، وهي منهج حياة لمن تأملها وامتثلها، إذ فيها الكثير من الفوائد والدروس والعِبر، التي ينبغي أن نستفيد منها في واقعنا، ونقتدي بها في دعوتنا للناس وتعاملنا مع الآخرين وفي حياتنا كلها،، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }(الأحزاب الآية: 21).