بطرس دانيال يكتب: احذروا ...!
هل أنا منافق؟ أليس هذا مُخالفا للحقيقة التى خلقنا بها الله على صورته ومثاله؟ يقول شكسبير: "حين خلقك الله، صنع لك وجهاً، وبعد أن خلقك الله، تصنع لنفسك وجهاً آخر». ما أصعب أن نتقابل مع أشخاص منافقين فى الكلام والسلوك، فهذا النفاق ناتج عن أشياءٍ كثيرة سواء فى أسلوب التربية أو ضعف الشخصية أو المصلحة الذاتية التى يتطلع إليها الفرد، لكن لا يستطيع أى إنسان أن يستمر فى هذه الرذيلة دون أن يُفتضح أمره، ويقول المَثَل: «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع الناس جميعهم كل الوقت». للأسف نجد هذا العيب الخطير فى رموزٍ وأمثلةٍ مختلفة من المجتمع وفى مجالات مختلفة، الشخص المنافق يدّعى بأنه يجهل أشياءً بعينها وهى معروفة جيداً للجميع، كما أنه يَدّعى بمعرفة أشياءٍ ولكن فى الواقع هو يجهلها، يدّعى بأنه يفهم مواضيع مستحيلة الفهم بالنسبة له، ولا يفهم أشياءً واضحة أمامه، ويتظاهر بأنه حكيم وعميق التفكير ولكن حقيقته تثبت سطحيته، لأن النفاق والكذب والتعالى والخداع هم أسلحته التى يستخدمها فى علاقته بالآخرين، ولكن تأتى اللحظة الحاسمة وهى كشف أمره أمام الناس. ويقول ميكافيللى: «يرى الناس ظاهرك فقط، وقليلون الذين يعلمون مَنْ تكون». يُرجِع البعض هذا إلى تربية الوالدين الصارمة واستخدام العقاب المستمر والعنيف فينتج عنه طابع النفاق والخداع، لأن الأبناء يتسلّحون بهذه الأساليب لينالوا رضا وإعجاب الوالدين ثم ينتهى بهم المطاف إلى عادة الكذب حتى على أنفسهم، فالتخويف الدائم والمستمر لا يخلق شخصية سوية أبداً، ولا يبنى إنساناً حقيقياً صادقاً سوياً، ولا يعنى هذا أننا نرفض استخدام الشدّة من الوالدين أحياناً فى تربية أبنائهم، ولكن ليس المقصود به الرعب الذى يحمل الأبناء للجوء إلى الخداع كوسيلة دفاع عن النفس ويظل هذا معهم ويتأصل فيهم فى التعامل مع الجميع، وهذا هو التصنّع الذى ينتج عنه الغش والنفاق والكذب والإنسان ذو الوجهين. إذاً لا يستطيع أحدٌ لوقت طويل أن يصنع له وجهاً ليظهر به أمام نفسه وآخر ليكشفه للناس دون أن يقع فى الحيرة وعدم التركيز ليميّز أيهما الحقيقى وأيهما المزيّف، ويقول المَثَل: «احترس من المنافقين، فالأطعمة السكّريّة تسوّس الأسنان». داود النبى شكا لله مراراً وتكراراً من أقرب الناس له قائلاً: «لو أن عدوّاً عيّرنى لاحتملته، ولو أن مُبغِضى تعاظم عليَّ لتواريتُ عنه. ولكنكَ أنت، يا نِدّى وأليفى وأنيسي، يا مَن تربطنى به أحلى مُعاشرة حين كنّا معاً فى بيت الله نسير... فمهُ أليَنُ من الزُبد وقلبه يشُنُّ القِتال. كلماته أرقَّ من الزيت وهى سُيوفٌ مسلولة» (مز 54: 13-15، 22)، وهنا يفضح داود خيانة الصديق المُقَرّب إلى قلبه، ويفضفض لله حتى يُعينه ويمنحه القوة، ويتكلم عن التحوّل المُخزى والمخجل من الصديق والرفيق وموضع الثقة والعِشرة الطيبة إلى عدو ممتلىء بغضاً ومروّج الإشاعات، فكلمات الحُب تحوّلت إلى كلمات الخداع والإهانات، وأدوات السلام الأنعم من الزبد أصبحت أساليب القتال بالسيف. فالشائعات هى أخبار سيئة تنتقل بسرعة البرق، والضعيف له سلاح واحد وهو أخطاء الأقوياء. فالخطورة الكبرى للنفاق هو عيبٌ كله خداع لأنه يتجمّل ويرتدى صورة الفضائل، وينصحنا الكاتب الساخر الإيطالي Giovanni Papini قائلاً: «لا نضع ثقتنا فى المظاهر، حتى ولو على نطاق ديني، لأن الجِمَال تركع أيضاً، والممثلون يتلون صلوات وابتهالات، ومَن يقطعون شرائح البصل يبكون...»، فهذا المرض منتشر كثيراً وفى مجالات عدّة، ونحن نعيش فى عالم مليء بالمظاهر الخادعة والسطحية، ولكن مَن يريد الحقيقة والمصداقية، فهو بحاجة إلى الشجاعة والتواضع والصدق مع النفس. لأنه من السهل أن نقع فى فخ الرياء فى غياب الآخرين ونتحدث عنهم بكل ما هو سيىء، ولكن فى اللحظة التى يظهرون فيها أمامنا يتبدّل كلامنا المنمّق ويصبح رياءً ونفاقاً فى الحديث عنهم. ويقول الكاتب Andrè Guide: «لو عرِف كلّ واحدٍ منّا ما يقوله عنه الآخرون، لَمَا تحدّث أحدٌ عن أحدٍ». إذاً علينا أن نتعود على قول الحقيقة مهما كلّفنا الأمر، فالنفاق والكذب والخداع لن يدوموا طويلاً وستظهر الحقيقة إن آجلاً أو عاجلاً، ونختم بكلمات لاروشفكو: «خيرٌ لنا أن نظهر فى ثوبنا الحقيقى من أن نتبختر فى حُلَّة جميلة مستعارة".