"يامسافر وحدك وفايتني".. حكايات الوداع على رصيف محطة مصر (صور)
"ألم الفراق".. من
المؤكد أن جميعنا شعر من قبل بألم الفراق، حينما يتركك غالٍ ويرحل، أو يقرر السفر
لفترة أو دون رجعة، لحظات يتوقف عندها الزمن، حينما تحتضنه عيناك قبل أن يرحل،
إنها آخر مرة تراه فيها.
تسير وتلملم ذيول دمعاتك ورائك، وفي رأسك ألف كلمة وحكاية.. "سأشتاق إليه/إليها"،
من المؤكد أنها ستكون عنوان ما يدور في دماغك في تلك اللحظات.
ظلت أرصفة محطات القطار شاهدة على دموع الفراق، وأمنيات العودة، وعناق اللقاء.
إذاعة السكك الحديدية بمحطة رمسيس، تعلن عن اقتراب قطار 979 المتجه إلى وجه قبلي، يبدأ المسافرون الرابضون على الأرصفة في الاطمئنان على أمتعتهم، بعضٌ يطمأن على هدايا الأقارب والأحبة، وبعضٌ آخر يبحث عن تذكرته التي أسقطها على القضبان الحزينة، وآخرون يودعون بعضهم البعض.
شهد رصيف محطة مصر، آلاف المُفارقين الذين لم يعودوا يومًا قط، دمعات ذُرفت هنا، وأخرى سقطت هناك، ودمعات فرح بعودة غائب، وأخرى قلق على شخص انتظرته ولم يأتِ.
"عاشر من تعاشر فـ لابد من الفراق"، أحد الأمثال التي تُقال حين يهجرك
أحدهم، بإرادته أو بدون، صافرات القطار، وصوت المذياع باقتراب الرحيل، وأصوات المسافرين
على رصيف محطة القطار، باتت تلك المشاهد جزءًا من تاريخ البشر.
هنا على رصيف محطة مصر، ربما يُآنس وحدتك حينما ترى العشرات ذاهبون معك، تاركين
أحبائهم وأقاربهم، وكأنها أحد المشاهد بأفلام السينما، التي نشاهدها كل يوم.
يا راحلًا
وجميل الصبر يتبعه.. هل من سبيلٍ إلى لقياك يتفقُ
"متتأخرش عليا
ياغالي"، بهذه الكلمات ابتسم هذا الشاب، ليداري دمعته، مودعًا صديقه، ربما
يكون الوحيد، أو الأكثر قُربًا، ربما ذهب ليرى أسرته البسيطة في الصعيد، بساطة
ملابسهم وابتسامتهم تُخيل لك مئات الحكايات عنهما.
ومن نافذة القطار، ظل هذا الشاب يمزح مع صديقه الوحيد، يآنس وحشته ما تبقى من
الدقائق قبل أن ينطلق قطار الرحلة، أيام ويعود، ولكن لا نعلم مدى قسوتها عليه دون
صديق.
شباك التذاكر: ليس للرحيل ظلال
على هذه النافذة
الصغيرة، ترى زحامًا وكأن الجميع يتلهف الرحيل، ولكن في الحقيقة، بعضهم يود لو لم
يصل إليه، تتسارع نبضات قلبه في الخطوات الأخيرة قبل أن يمد يديه ويطلب
"تذكرة"، ينظر إليها ويغمغم في صوت مجروح: "أنتي التي ستُبعديني
عمن أشتاق وأحب".
هنا على هذه النافذة الحديدية، تتساقط أحزان البعض، وتولد فرحة آخرين، هنا ليس
للرحيل ظلال، فقط الرحيل هو الرحيل، ليس له معنى آخر.
القطارات تروي قصص العشاق
ليس كل الحكايات هكذا،
فهنا أيضًا ينتظر أحدهم قطار الحياة ليُعيد له الحياة، من ينتظر أن يعود لحبيبته،
ومن ينتظر أن يعود لأمه مُشتاقًا لحنانها وطعامها، ومن بدأ في تجهيز الهدايا
عائدًا إلى وطنه للأبد؟
في ذلك
الوقت من الظهيرة، ينتظر "محمد" و"أحمد" -أسماء مجازية- شابان
في نهاية العقد الثاني من عمرهما أو ربما بداية الثالث، على رصيف محطة مصر،
متلهفان لسماع صوت القطار، تهاجم عقلهما مئات الأفكار: "سأعود لأهلي، سأرى
خطيبتي، أشتقت لأمي"، حينما تقع عليهما عيناك، ترى شابين تقفز روحهما من الفرح،
عينان صغيرتان يملؤوها شعور الاشتياق.
تسرح للحظات، كم عانيا من "ألم الفراق" حتى يشتاقان بهذا الشكل وهذا
الكم، حينما سمعا صوت القطار، وكأنهما كانا كـ المومياوات، وردت إليهما الروح،
يهرولان إلى القطار، لا يهمهما أن يجدا مكانًا للجلوس، فقط يريدان السفر.
حكايات على "قطار الغلابة" كل يوم، يشهدها رصيف محطة مصر، أكبر شاهد على
لحظات الوداع واللقاء، وكأن لا أحدًا يراها غيره.
في القطار
في القطار..
دائمًا يروي لي السفر حكايات، ربما كُتبت عن شجن الفراق،
عن بحة صافرات القطارات، عن دموع تُبلل أرصفة الوداع، لكن كانت تلك رحلة مختلفة، فنظرتي اتسعت لمشهد غريب، غصت عميقًا فيما وراء الملامح، سمعت شكاوى قلوب منكسرة، تئن بشدة أبدان جد مكدودة.
في القطار.. كان صوت ريح يضرب قلوبًا مُنتظرة، يختلط بصوت أنين يحيط بنا، فذلك التكدس يجمع الوجع معًا، وتحمل النظرات كلامًا ممنوعًا، تهمس
بتردد وتوجس وخيفة، كأن الجميع وُضع تحت المراقبة، لكن تلك النظرات تحدت محبسها، أباحت بكل شئ كان ممنوع.