بين نارين.. أصحاب ورش المدابغ يقضون العيد الآخير قبل الانتقال للروبيكي (فيديو)
عالم يسوده السكون، ويهيمن الغبار على أرجائه، فكلما تتعمق الأقدام إلى الداخل، تختفي ضوضاء البهجة التي تستعد بها الشوارع لاستقبال عيد الأضحى، فينتهي المطاف وسط الحطام، حيث يخيم الصمت القاتل، لدرجة يرتد فيها الصوت فيُسمع صداه على الفور من شدة الفراغ، حتى تتضح على الفور أعين منكسرة تختبئ وسط المخازن المردومة، منعها ارتفاع السور من إلقاء نظرة خاطفة على مظاهر العيد الذي لم يتبقى لهم منه سوى جلود الأضاحي ورائحة دمائها.
فلا يفكر العاملون في مدابغ الجلود بسور مجرى العيون، سوى بآخر أيامهم في هذه المنطقة التي لاطالما كانت مصدر رزقهم الوحيد، فترتبك قلوبهم كلما ارتطم بآذانهم صوت المعول وهي مقبلة على المنطقة لتختار عشوائيا ما تنوي هدمه، في الوقت الذى كان ينتظرونه كلعام فعيد الأضحى يكون بمثابة موسم لأعمالهم، الأمر الذي يختلف كثيرًا هذا العام، فيخافون حلول المناسبة على عكس السنين الماضية، فما يدور في رأسهم كونه العيد الآخير الذي يقضونه في هذه البقعة التي منحوها سنوات من عمرهم.
"القرار دا قطع رزق ناس كتير"، بهذه العبارة وصف عم "صابر" غفير إحدى المدابغ، حال العاملين المُفجع، منذ بدء تنفيذ قرار هدم مدابغ المنطقة ونقلها إلى منطقة "الروبيكي" الصناعية بمدينة بدر، حيث أن المسافة بالنسبة لهم تعد بمثابة رحلة سفر يومية شاقة، لايقوى الرجل المسن على تحملها.
وبعيون ترغرغت بالدموع، وقف الرجل المسن، يجول بعينيه وسط الجلود ويتأمل تفاصيل المنطقة التي قضى عليها الهدم: "كان فيه مدابغ لسة جديدة نوفي هنا وشالوها برضو"، فبعدما منح 40 عامًا من عمره لمخزن معلمه الذي عمل لديه بالغسيل ثم في الشلح، حتى وصل إلى مهنته كغفير، أصبح مصيره اليوم هو الانتقال إلى منطقة صحراوية لا يملك القدرة على التعايش مع ظروفها:"بس مضطر عشان أكل عيشي.. ولو المعلم راح هروح معاه".
على بعد خطوات منه، كان أحد العمال الذي يدعى "كريم"، يضع كميات كبيرة من الملح على الجلود المسلوخة، يتوقف ليستريح قليلًا، ثم يتنهد بحسرة وهو ينظر إلى المخزن الذي يعمل به منذ ثمانية أعوام: "القرار دا حكم علينا بالإعدام"، هكذا يرى الشاب الثلاثيني، الذي أثارت تجارب من سبقوه إلى "الروبيكي" مخاوفه، بعدما واجهوا معاناة كبيرة مع المرافق العامة: "الناس هناك بتموت.. مفيش مية شرب ولا كهرباء".
يرى العامل الثلاثيني، أن ترك المهنة هي طوق النجاة من عذاب المواصلات وضعف سبل المعيشة بالمنطقة الجديدة: "بس أكل عيشنا وبصرف منه على اخواتي هنعمل إيه"، فبالرغم من أنه يقطن بالقرب من محل عمله، إلا أنه سيضطر إلى النقل مع معلم المخزن الذي يعمل به إلى "الروبيكي" حتى يجد مهنة جديدة يجني رزقه من خلالها.
يؤيد "كريم" كل من تركوا المهنة ولجأوا لفتح مشاريع أخرى مربحة ومريحة بعيدًا عن مشقة المشوار إلى هذه المنطقة الصحراوية:"اللي قادر يسيب المهنة سابها.. وخدوا تعويضات 2000 جنيه عالمتر الواحد يفتحوا بيهم مشاريع تانية".
يقلب العامل الثلاثيني، كفيه لينفض الملح من بينها، فصعوبة المهنة ومخاطرها الكثيرة لاتضاهي عذاب الانتقال إلى المنطقة الصناعية الجديدة، فتراوده الحسرة على هذا القرار الذي لم يجد مبرر مقنع لتنفيذه:"كل حاجة سليمة ومفيش حاجة بايظة ولا فيه أي مخاطر على حد.. بس هما اللي عاوزين يهدوها وخلاص ويهدوا روحنا معاها".
وعلى بعد خطوات صعد "محمود" على أعلى الجلود المتراصة أمام مخزنه يرتبها، وينقل منها إلى داخل المخزن الذى يحوى الآلاف من قطع الجلود المتراصة.
وما إن رتب الرجل الأربعيني بعض من الجلود، اتجه سريعًا إلى داخل مخزنه ليفترش الجلود قطعة تلو الآخرى وينثر عليها حبات الملح المستخدمة في حفظ الجلود، تمهيدًا لعملية دباغتها.
"كله هيتهد"، يقولها "محمود" بمرارة منتظرًا دوره مع هدم مخزنه، ليقع في حيرة بين اختيارين لا ثالث لهما، أولهما أن يأخد تعويض 2000 جنيه مقابل كل متر في المخزن، أو الانتقال إلى الروبيكي، وفي كلتا الحالتين سيتبقى من مخزنه بسور مجرى العيون في منطقة مصر القديمة مجموعة من الأتربة التي تغطى كل لحظات عمله في ذلك المكان الذي أخذ أعوام من عمره.
وما إن تختبيء الروائح الكريهة المنبعثة من جلود المواشي التي يقوم العمال بوضع الملح عليها، جلس "أحمد" في محل يغطيه بوابه زجاجية، منهمك في عمله المتمثل في صناعة الجواكيت الجلد ومفارش الأرض المستخلصة من جلود الحيوانات.
يرى الشاب العشريني في الانتقال إلى الروبيكي مرحلة مختلفة في حياته ينتظرها منذ عمله قبل ثلاث سنوات، فلم يعجبه العمل داخل مكان غير مهيأ لعمله، ويرسم على واقع مدينة الروبيكي حلم جديد لعمله خلال الفترة المقبلة.
وأصدرت الحكومة، عدة قرارات من شأنها البدء في إنشاء أول مدينة متخصصة للجلود في مصر بمواصفات عالمية، والاستفادة من مبلغ 158 مليون جنيه الذي نتج عن مبادلة الدين الإيطالي وتحويله إلى منحة في تمويل أعمال البنية الأساسية والمرافق الخارجية ومحطات المعالجة للمشروع، وبالفعل تم نقل 12 مدبغة إلى الروبيكي، لكن عشرات المدابغ مازالت تعمل خلف سور مجرى العيون، في انتظار مصيرها إما بتعويض أصحابها بمبالغ مادية أو استبدال مدابغهم بأخرى في منطقة الروبيكي.