بطرس دانيال يكتب: لا أصدقك!
يقول الكاتب الساخر برناردشو: «إن قصاص الكذوب ليس فى ارتياب الناس بصحة كلامه، بل فى عدم استطاعته تصديق كلام الناس». لماذا يكذب الناس؟ لماذا يتسلّح كثيرٌ من الأشخاص بسلاح الكذب وعدم قول الصدق؟ نستطيع أن نُجيب على هذا بما نختبره فى معاملتنا اليومية مع الآخرين، يكذب الإنسان بسبب خوفه أحياناً، أو يكذب استحياء من الآخرين، وهنا يُفضّل اعتبار الناس على رضى الله، كما أنه يوجد مَنْ يكذب للزهو والمباهاة خاصةً بما لا يملكه من قدرات ومواهب وإمكانيات؛ ويوجد مَن يكذب ليغش البسطاء والضعفاء ويخدعهم، وهذا أسوأ أنواع الكذب. يُصرّح ميكافيللى لأحد أصدقائه قائلاً: «منذ فترةٍ وأنا لا أقول ما أعتقد به، كما أنى لا أصدّق ما أقوله، وإذا قيل لى الصدق، أنا أُخفيه بين طيّات أكاذيبٍ كثيرة ليصعب الوصول إليه»، هذا هو حال الكثيرين الذين يخدعون الناس بأساليبٍ ملتوية ومعوجّة، هنا يفتخر ميكافيللى بأنه كاذباً فى قرارة نفسه، وتنتج هذه الآفة من التشاؤم الجذرى فى مواجهته الآخرين، وهذه التجربة القوية تدفع الكثيرين إلى الكذب فى لحظات الخوف، ونحن نعيش الآن ثقافة وفلسفة الصورة والمظاهر التى تدفعنا إلى الخداع الذى يصل بنا إلى الكذب حتى على أنفسنا. كما أن هناك أشخاصاً مقتنعين تماماً بالكذب إلى درجة أنهم يسقونه للآخرين، حتى يخرج بأناقةٍ، وفى هذا الصدد يعلّمنا السيد المسيح أن نكون صادقين قائلاً: «ليكن كلامكم نعم نعم، ولا لا؛ ومازاد على ذلك فهو من الشرير» (مت 37:5). لذلك يجب أن نلتزم الصدق ونُخلص له لا سيما فى عمل الخير، ويقوم هذا الإخلاص على أن نَصْدق فى القول والفعل، وأن لا نأتى فى السر ما نستحى منه علانية: أى لا نكذب ولا ننافق ولا نخادع، حتى لاندعْ الفرصة للناس أن يشكّوا فى إخلاصنا ويفقدوا الثقة فينا، لأنه إن فُقدت الثقة، ضاعت الشخصية، وفسدت طرق التعاون، وحظيت الحياة بالفشل بين الناس. وللأسف كما يقول الفيلسوف الفرنسى Denis Diderot: «نحن نصب أنهاراً من الكذب لخداع الناس، لكننا نتجرّع قطرة قطرة من الحقيقة لأنها تبدو لنا مُرّة»، لأننا إذا قمنا بمراجعة أنفسنا، سنكتشف بأن الغالبية العظمى تفضّل مديح الناس وكلامهم المعسول، عن قول الحقيقة المُرّة أو النقد البنّاء الذى يساعد على التغيير للأفضل. نجد أُناساً فى مجالات عدّة يلعبون بالآخرين عن طريق الكذب والخداع، ونكتشف أن الإنسان الذى فقد الشهامة والإنسانية، لا يتسنّى له الاحتفاظ بمركزه ووظيفته فى المجتمع، ما لم يلجأ إلى الكذب والرياء، ولكن عندما يُكتشف كذبه للجميع، يموت ذلك الشخص دينياً وأخلاقياً واجتماعياً، والكذّاب لا يهمّه الخُلُق والتهذيب وثقة الناس، لأنه بكذبه يبرهن على أنه لا يحترم ذاته، فكيف ينتظر الاحترام والتقدير من الناس؟ ويقول المفكّر Joseph de Maistre: «الأكاذيب تُشبه العملات المزيّفة، قام بسكّها شخص غير أمين، ويقوم بصرفها أُمناء ومخلصون، وهم يثبّتون الجريمة دون أن يدركوا هذا»، ومن الطبيعى أن يحدث معنا ما يشابه هذا عندما نتبنّى بعض الآراء أو الأخبار دون تمحيص، ونقوم بترويجها بين الآخرين، كما يتم مثل هذا مع بعض الأشخاص الذين يستخدمون عملات مزيّفة ويتداولونها دون دراية بذلك ليسيّروا بها أعمالهم، لذا إذا كانت الأكاذيب ظاهرة ستصبح واضحة على الملأ ومن الممكن ضحدها ورفضها ومقاومتها، لكن هناك أكاذيب مغلّفة بالصدق دون أن يشعر بها الناس، ومن ثَمَّ تُقنع الغالبية العظمى بتصديقها والأخذ بها. لذلك نحن بحاجة إلى اللقاح الدائم ليوقظ العقل والضمير أمام كل رأى أو خبر. ما أجمل هذا القول: «علمتنى الحياة ألا أسال الكاذب لما كذبت، لأنه حتماً سيُجيبُنى بكذبةٍ أخرى»، ويوجد ثلاثة أنواع من الكاذبين: مَنْ يجرى الكذب فى دمهم ويكذبون ليجمّلوا صورتهم؛ المراؤون الذين يكذبون ليتجنّبوا مواجهة الآخر؛ أخيراً هؤلاء الكاذبون الذين يبررون ذلك قائلين: «فهمونا خطأ»، وللأسف الأكاذيب ولاّدة بطبيعتها، واحدة تلد مائة، ونحن نجد كل يوم الأنواع الثلاثة من هؤلاء. لكن الإنسان الصادق لا يخاف من الآخرين أو ما يقولونه عنه ولا يجامل أحداً، وكما يقول شكسبير: «إذا كنتَ صادقاً، فلماذا تحلف؟» فالصدق شجاعة، أما الكذب فجبانة، لأنه نتيجة خوف الناس وتحدّى الله الذى حرّمه، وكما يقول المَثَل: «الصدق ينجّيك وإن خِفته؛ أما الكذب يُرديك وإن أمِنته»، لأن من أضرار الكذب على صاحبه، أنه متهم به وإن تحرّى الصدق، فإذا حاول تجنب الكذب، كذّبه الناس بحيث لا يبقى له فى اعتبارهم حديث ذى مصداقية. والكذب لا يستر الهفوة، ولا يخفف من السقطة، بل يزيدهما وضوحاً وثقلاً، ويقول أرسطو: «الكذابون خاسرون دائماً ولاسيما أن أحداً لا يصدّقهم حتى ولو صدقوا»، لأن الكذّاب لا تقبل شهادته لا فى نفسه ولا فى أصدقائه. إذاً، ماذا يجب أن نفعل؟ أن نتحلّى بالصدق فى معاملاتنا وحواراتنا ونتحصّن بالحقيقة التى تنبع من أُناس صادقين، لأن خلاف ذلك، سنصل إلى العزلة التامة الناتجة عن خوفنا من الآخرين أو الغش والاحتقار، وللأسف هذا الطريق يسلكه الكثيرون فى أيامنا هذه لأنه الطريق الأسهل والمريح، وكما يقول الكاتب الفرنسى Albert Camus (ألبرت كامي): «لن أُجرّب أبداً تعديل وتكييف ما أفكّر فيه، أو ما تفكّرون فيه أنتم لأصل إلى المصالحة المقبولة من الجميع، كل ما أبتغى قوله لكم اليوم هو أن العالم بحاجةٍ إلى الحوار الصادق، لأن عكس هذا الحوار سيكون الكذب، ولن يكون هناك إمكانية هذا الحوار إلا فى وجود أُناس تظل كما هى وتتكلم بصدق».
ونختتم بكلمات الفيلسوف أفلاطون: «من ضرر الكذب أن صاحبه ينسى الصورة الحقيقية المحسوسة، ويثبّت فى نفسه الصورة الوهمية الكاذبة، فيبنى عليها أمره، فيكون غشّه قد بدأ بنفسه».