الدعاة والعصاة.. تربية لا تعرية
روى الإمام الطبراني وأبو نعيم في معرفة الصحابة، عن خوّات بن جبير قال: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهران (قرية قرب مكة)، فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، فأخرجت حلّة لي من عَيبَتي، فلبستها، ثم جلست إليهنّ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبّته، فقال: "أبا عبد الله! ما يجلسك إليهنّ؟" قال: فهِبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول جملٌ لي شَرودٌ، أبتغي له قيدا.
قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعته، فألقى إلي رداءه، ودخل الأراك (موضع في عرفات)، فقضى حاجته، وتوضأ، ثم جاء، فقال: "أبا عبد الله! ما فعل شِرادُ جملك؟" ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: "السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟".
قال: فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك علي تحيَّنتُ ساعة خلوة المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجاء، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس، وطوَّلتُ رجاء أن يذهب ويدعني، فقال: "طوِّل أبا عبد الله ما شئت، فلستُ بقائم حتى تنصرف"، فقلت: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبرئنَّ صدره، فانصرفتُ، فقال: "السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟". فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذاك الجمل منذ أسلمت، فقال: "رحمك الله" مرتين أو ثلاثاً، ثم أمسك عنّي، فلم يعد.
هكذا كان رسول صلى الله عليه وسلم في دعوته للعاصين والمخطئين والمذنبين، الأخذ بيد العاصي، يستر عورته، ويقبل عثرته، ويعينه على شيطان نفسه، ولا يجرح، ولا يثرب، ولا يواجه الإنسان بخطئه ـ طالما لا يحتاج الحال لذلك ـ وإنما نصح يصحح الطريق، ويقيم المعوج، ويرد الشارد، في أدب جم وذوق رفيع.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [أُتِي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب، قال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان].
وفي صحيح البخاري أيضا: [إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر].
إن تصحيح الأخطاء لا يلزم منه التثريب والفضح، والتشهير والقذف، وتعرية المخطئ قبل إرشاده وتوجيهه، وإنما أجمل منه الستر والصفح، والنصح بالمعروف مع تمام الرفق ومراعاة نفسية المخطئ.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يبلغه الخطأ عن الإنسان يعلمه، فلا يذكر اسمه ولا يشير إليه بما يدل عليه، وإنما كان يقول: [ما بال أقوام يفعلون كذا]، دون تحديد؛ ليرفع عنه الحرج ويحسن إليه، لأن الإحسان إلى الناس يحقق المقصود، وهو أدعى لقبول النصح وعدم الشرود.
بل إن التثريب والتشويه والفضيحة تباعد بين الداعي ومن يدعوه، وتصنع لونا من الجفاء الذي يصم الآذان عن سماع الحق وقبوله، وكم من إنسان نفر قلبه غاية النفور، وتحول إلى حال أسوأ بكثير مما كان عليه، ولربما صار يعادي الدين بسبب الأسلوب الخاطئ في المعالجة.
إن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر يجب أن يكون متصفا بأحسن صفات الكمال والتواضع والحلم، وعدم الكبر على الخلق، وعدم استحقارهم والاستخفاف بهم؛ حتى يكون ذلك سببا في قبول أمره ومجانبة نهيه.. ومن تعاليم سليمان لابنه {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا}. لأن التواضع والتلطف والشفقة على المدعو، مع عدم الكبر والمرح والتعالي من أهم أسباب القبول.
لقد جاء الشاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا، ويطلب منه أن يرخص له فيه، فضج الصحابة لهذا المطلب العجيب وزجروا الشاب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما نهى ولا زجر ولا نهر ولا عتب ولا قطب جبينا ولا أعرض عنه.. بل أقبل عليه وقربه وأدناه وحاوره وتلطف معه حتى أخرج من قلبه كل شبهة، ومسح على قلبه وصدره ودعا له حتى أخرج الله من قلبه كل شهوة، وما زال به حتى أقر الشاب لرسوله بخطأ مطلبه، وعاد سليم الصدر قرير العين بإيمانه وصفاء قلبه.
إنه خلق عال، ومعاملة كريمة تبني ولا تهدم، وتقوم ولا تعوج، ولا تستهزئ ولا تعتب ولا توبخ، إنها أخلاق الدعاة كما ينبغي أن يتعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا يكون دور الداعي تربية تأخذ بيد المدعو إلى مكارم الأخلاق، لا تعرية تعين الشيطان عليه ليكون لبنة صالحة في مجتمعه المسلم.