تفسير الشعراوي للآية 27 من سورة الأعراف
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)}.
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإِغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتُطلق- أحياناً- على الأثر السيء حيث تكون أشد من القتل، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة؟ لا؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي الاختبار إما أن ينجح الإِنسان، وإمّا أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيراً وإن رسب تعطه شرًّا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض، وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض؛ فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له، وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في (افعل كذا) و(لا تفعل كذا)؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على المهمة؛ لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية الواقعية، وأوضح له: أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة. و(كُلْ) أَمْرٌ، و(ولا تقرب) نَهْيٌّ، وكل تكليف شرعي هو بين (لا تفعل) وبين (افعل).
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب آدم وحواء وأكلا منها؛ خالفا أمر الله في {وَلاَ تَقْرَبَا}، وأراد الله أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة، فبدت له ولزوجته سواءتهما، فلما بدت لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله: أن اهبط إلى الأرض مزوداً بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين لنا أنه عصى أمر ربه في قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا}، وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة الله وصار نبيًّا؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني: {... وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121].
إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضاً إلى قوله الحق: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ}
إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر، يخطئ ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً، ومادام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122].
إذن لا يصح لنا أن نقول: كيف يعصي آدم وهو نبي؟! نقول: تنبه إلى أن النبوة لم تأته إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية منقسمة إلى قسمين: بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون: إن آدم كان مخلوقاً للجنة، نقول لهم: لا. افهموا عن الله، لأنه يقول: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريباً على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، والا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن المعصية أخرجته، إلا أن الله قد قبل منه توبته، وما دام قبل توبته فكان يجب أن يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم حتى نتعظ بها، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم. {يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ...} [الأعراف: 27].
وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل، فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل البعض: لماذا لم يقل الله: لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة}؟. ونقول هذا هو السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا فأخرجهما من جنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، وهو أن تجعل الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله.
فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب. {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة...} [الأعراف: 27].
والفتنة- كما علمنا- هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به. كذلك الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختباراً للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لأن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد على منهج الله من الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ...} [الجن: 11].
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحداً، واقرأ قول الحق سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ...} [الكهف: 50].
وهنا يقول الحق سبحانه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ...} [الأعراف: 27].
و(قبيله) هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قَسَمَه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا لأمر الله معصية أَدَّته وأوصلته إلى الكفر؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ...} [الأعراف: 27].
وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإِنس معهم لما قال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}.
وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية، ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً...} [الأنعام: 112].
وكلمة {زُخْرُفَ القول} تعني الاستمالة التي تجعل الإِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول، وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول، فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإِيمان في البشر، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركاً هبة في نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإِسلام.
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاثة من أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من هذا القول الكريم؛ فقال قوم: (إنهم جنوده وذريته)، ويقصدون جنوده من البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فلابد أن يكون المراد بالقبيل هنا الذرية؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر والتنبه؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا مخلوقون من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته أكثر من شفافية الإِنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه.
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان قد رُئى وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله وقال لنا صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم".
وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة ملائكيّته، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال: (إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون).
وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره، فقال بعضهم: حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، لابد أن نقول: إننا لن نراه.
وأقول: إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته، بل على صورة مادية يتشكل بها، وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان؛ لأن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان، وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه، هل هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟
إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة، وحركة المجتمع؛ لأنك لا تعطف على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك، ولا تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه صديقك.
ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به. وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه، وهنا سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته. وأيضاً أعدى أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم العلماء، فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه، ثم يقول كلاماً مناقضاً لمنهج الله؟.
إذن فالشيطان لا يتمثل، هكذا قال بعض العلماء، ونقول لهم: أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل، يتمثل تمثلاً استمرارياً، لا. هو يتمثل تمثل الومضة؛ لأن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان أو لصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها، وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً، إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً؛ لذلك يختار التمثل كومضة، ثم يختفي، والإنسان إذا تأمل الجني المشكل. سيجد فيه شيئاً مخالفاً، كأن يتمثل- مثلا- في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف أن تكون قد عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه. وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه.
ويتابع الحق سبحانه: {... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
والشياطين من جَعْل الله، وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم والا لو أراد الله منعهم من أن يفتنوهم. لفعل.. إذن فكل شيء في الوجود، أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى أمرين: طاقة تفعل الفعل، وداع لفعل الفعل. فإذا ما كانت عند الإنسان الطاقة للفعل، والداعي إلى الفعل، فإبراز الفعل في الصورة النهائية نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان. فأنت تقول: العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة، ونقول: إن العامل لم ينسج، وإنما الآلة، والآلة لم تنسج، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك، والصانع لم يصممها الا بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها.
إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل، واعتمد على طاقة المهندس الذي صنعها في المصنع، والمهندس اعتمد على طاقة الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه الله، وفي مادة خلقها الله.
إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً؛ لأنه خالق الطاقة، وخالق من يستعمل الطاقة، والإنسان يوجه الطاقة فقط، فإذا قلت: العامل نسج يصح قولك، وإذا قلت: الآلة نسجت، صح قولك، وإذا قلت: إن المصنع هو الذي نسج صح قولك.
إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله، وأنت وجهت الطاقة المخلوقة لله بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور. فإذا قال الله {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين} أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم، غير أننا لو أردنا الا يفتنوا أحداً لما فتنوه. وهذا ما فهمه إبليس. {... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82-83].
إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن يغويه، وتعلم الشياطين أن الله خلّى بينهم في الاختيار، هذه اسمها تخلية؛ ولذلك لا معركة بين العلماء. فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة لله، ونسب كل فعل إلى الله، ومنهم من رأى أنَّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله في أنه الفاعل لكل شيء، ومنهم من قال: إن الإنسان هو الذي فعل المعصية.. أي أنه وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ولا خلاف بينهم جميعاً. {... إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن، ولكن الذي آمن لا يتخذه الشيطان وليًا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا...}.