قوة المرأة في أنوثتها.."أولينا" تضمد جروح ضحايا الحروب بابتسامتها
عشقها لمساعدة المحتاجين منذ نعومة أظافرها، جعل منها صاحبة الابتسامة النقية التي تكفي لتداوي بها جروح كل المصابين، فمبجرد أن تطل من باب سيارة الإسعاف، يشعر كل من في المنطقة بيدها الناعمة تحتضن الصغار فتخمد بكائهم، وبنظرتها الحانية، تطمئن الأمهات فتطفئ ثورة قلوبهن، وبصبر وثبات تداوي جراح المصابين وتنقذ ضحايا الحرب دون أن تخشى الموت.
فبفضل دعم أسرتها لها؛ نشأت المسعفة اللبنانية أولينا إسماعيل، ذات الثلاثة وثلاثون ربيعًا، على روح المساعدة وحب خدمة المجتمع، وهو ما دفعها إلى الاتجاه للعمل كمسعفة متطوعة في فريق الصليب الأحمر اللبناني منذ كانت طالبة بالمرحلة الثانوية، ثم التحقت بكلية الصحة لاستكمال شغفها، واستمرت في الحصول على المنح والدورات التدريبية في مراكز الصليب الأحمر حتى اكتسبت خبرات المهنة.
"صغر سننا وضعف أجسادنا وأنوثتنا تخيف العدو"، هذا ما تراه "إسماعيل"، حيث تدرك جيدًا إن العدو الصهيوني الذي تحاربه لا يخشى سوى حماس الشباب وقوة شخصية المرأة، خاصةً في ظل الوضع الأمني الصعب الذي كانوا يعيشوه جراء الاحتلال الإسرائيلي حينها: فعقيدتنا تحثنا على الوقوف في وجه العدو.
ولم تتراجع السيدة الي تجاوزت الثلاثون عامًا، خطوة واحدة عن خدمة وطنها أوقات الحروب والأزمات، حيث شاركت في حرب تحرير لبنان من الاسرائيليين عام 2000، وانتقلت مع فرق الإسعاف برفقة الإعلام الحربي، ليسعفوا مصابي القصف:"وأتذكر حينها تعرض زملائي للقصف أثناء نقلهم للجرحى المدنيين".
تمكنت المسعفة الثلاثينية، من إيجاد نصفها الآخر الذي يساعدها على تحقيق شغفها، حيث التقت بزوجها في مركز الصليب الأحمر حينما كان مدربها في البداية، حتى تكللت علاقتهما بالزواج فور إنهائها لدراستها الجامعية، لينطلقا في شق طريقهما معًا نحو البحث عن الجمعيات التي تعتني باللاجئين السوريين المتضررين من الحروب: "حيث أتابع حالتهم الصحية وملفاتهم بالمجان".
وكأم تترك صغارها في المنزل كل صباح، لتتوجه مسرعة إلى البؤر الملتهبة، كانت "أولينا" الأكثر تأثرًا بمعاناة الأسر وأطفالهم جراء القصف الذي تعرضت له منازلهم وقت الحروب:"فأتذكر جيدًا موقف لم أنساه حينما تم قصف منزل عائلة كاملة مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال، وتحطم على رؤوسهم، ففقدت الأم قدميها وتعرض الأطفال لإصابات خطيرة إثر الشظايا، فأصيبوا بصدمة عصبية حينها، وهو ما فرض علينا تقديم الدعم النفسي والعلاجي لهم".
وبالرغم من صعوبة المهنة التي أرهقت أولينا إسماعيل، نفسيًا وجسديًا بسبب شعورهم المستمر بآلام الضحايا كما لو كانوا هم المصابين، إلا أنها تهرول مسرعة بين منطقة والأخرى لتنقذ أكبر قدر ممكن من الضحايا، وهو ما فعلته حينما تعرضت أسرة كاملة لقصف صاروخي فوق سيارتهم، وهو ما تسبب في احتراق معظمهم، حيث كان من بينهم مسن ظل يأن لدرجة لمست قلوبهم التي انفطرت بكاءا على حالته الموجعة.
ولأن عاطفة "أولينا" كانت تطغى عليها في بعض الأحيان خلال تعاملها مع المصابين، تمكنت من إثبات أن المريض خلال دخوله في غيبوبة يتمكن من الاستماع إلى كل ما يدور حوله، وهو ما تعرضت له حينما قررت أن تعتني بمصاب في غيبوبة لتشاركه كافة أحاديثها بشكل يومي:"لدرجة صباح الخير كنت أقولها له، حتى أفاق من غيبوبته وتذكر صوتي وكافة أحاديثي معه".
وبالرغم من ذلك، كانت المسعفة الثلاثينية، تحاول في العديد من المواقف أن تتخلى عن عاطفتها ومشاعرها، لتستبدلها بالقوة التي تواجه بها المخاطر والتي تمنعها من الانهيار كامرأة أمام مناظر الدماء والأشلاء المتناثرة: "لأن الضعف في معظم المواقف يعيق الأعمال".
وفي محاولة منها للتخلص من عاطفتها أمام الأطفال حتى لا تخيفهم بذعرها وتأثرها بحالهم، تضغط "أولينا" على نفسها فتتظاهر بالقوة أمامهم، لتستمر على هذا الحال حتى تخلد إلى النوم:"حينها كنت أسترجع صورهم وأبكي، فأصر على المتابعة في عملي لمساعدتهم دون مقابل فهم الأكثر حاجة لي".
نجحت المسعفة اللبنانية، في تأمين نفسها بفضل اتباع إجراءات السلامة المهنية، حيث كانت ترتدي دروعًا رصاصية واقية، ومن ثم تختار الوقت المناسب لتقديم الخدمة الطبية عن طريق تحكيم المنطق والعقل قبل العاطفة والإحساس، وهو ما جعلها تنجو من خطر الإصابات:"فلم أتعرض للإصابة سوى بسقوط خفيف أثناء نقلي لجثامين من أماكن وعرة، ولكنها لم تترك آثارًا بليغة".
فتتعامل "أولينا" مع الأماكن الخطرة بحذر شديد:"مثلًا ما أفوت على حقل ألغام دون أن اعرف أماكنها بالتحديد لأن هذا جنون، ودائمًا ما أنتظر الوقت المناسب حتى أتمكن من العودة لإنقاذ عدد كبير من المصابين دون أن أصاب وأصبح عائلًا على زملائي، فضحايا الحروب أولى بالاهتمام والرعاية مني، فأنا لا أسعى إلى الموت بقدماي بل أريد دائمًا العودة إلى الحياة لاستكمال مسيرتي الخيرية".
وبالرغم من انتهاء مخاطر احتلال اليهود للأراضي اللبنانية منذ أكثر من عقد، إلا أن حقول الألغام التي يدسها الإرهاب المتجسد في "داعش" أو على الحدود السورية اللبنانية، كانت إحدى سلاسل الكوارث الخطرة التي توغلت "أولينا" برفقة زوجها خلالها، لتنقذ المصابين وتنقل الجرحى السوريين على الحدود إلى منازلهم بعد تضميد جروحهم، دون أن تعبأ بالخطر الكبير الذي يهدد حياتها:"وعموما مخاطر اليوم أخف قليلًا من خطر اليهود علينا".
ودائمًا ما تتمنى المسعفة اللبنانية، أولينا إسماعيل، أن تستغل المرأة غريزتها الأنثوية والحنونة، في تقديم الدعم النفسي والمعنوي للمحتاجين، دون أن يخشوا عوائق المجتمع التي تقلل من دور الأنثى وتضعف قدراتها:"فعلى العكس تمامًا السيدة بطبيعتها معطاءة بلا مقابل وهذه فطرة من الله تجعلها في قوة تحمل الرجل".
تفتخر أسرة "أولينا" الصغيرة والمكونة من طفلين وزوج، بشجاعتها في مواجهة مخاطر الحروب، لإنقاذ المحتاجين: "خاصة أنني بالرغم من هذه المتاعب والمسؤوليات أحرص على تربية أطفالي على نفس نهجي".
وبحكمتها وذكائها، نجحت "أولينا" في تقسيم وقتها بين المنزل والأسرة والعمل، حيث كانت في البداية تتوجه كل صباح مع زوجها إلى مركز الإسعاف وتعود معه، بينما جمدت نشاطاتها الميدانية في فترة الحمل لتتولى المهام الإدارية لحين أن تضع مولودها، ثم تستكمل بعد فترة نشاطها بين العمل والمنزل غير مبالية بالمجهود المضاعف الذي تبذله لتوفق بين كافة نواحي حياتها.