أمل صالح.. صحفية تحدت أسرتها لتغامر بقلمها بين المخاطر

تقارير وحوارات



"نفسي لما أموت الناس تفضل فكراني".. لأجل هذه الأمنية واجهت رفض أسرتها وتجاوزت عوائق المجتمع، فاستمدت من إرادتها القوة التي تصدت بها لكل تلك المحاولات المتكررة التي دائمًا ما تبوء بالفشل أمام إصرارها على امتهان الصحافة، هذا المجال الذي آمنت أنها خلقت لأجل أن تتوغل بداخله، لتسطر بقلمها الحقائق وتكشف بدهائها المستور خلف الأبواب، أما بين ضلوعها؛ فهناك قلبًا ينبض من شدة حماسه بعشق المغامرة.


فبالرغم من أن الإعلامية المصرية أمل صالح، ذات الواحد وثلاثون ربيعًا، عاشت حياة تقليدية كمثيلاتها من الفتيات، بين أم تخشى قسوة الحياة على ابنتها بلا زواج، وعائلة لم ترغب أن تُلقي بهذه الأنثى الرقيقة في مرمى الخطر الذي يشوب المهنة؛ لم تبالي عاشقة الجرائد التي أدركت طريقها منذ المراهقة بكل الحواجز التي صُنعت أمامها، فقررت اختزال سنوات التدريب والخبرة منذ عامها الأول بالجامعة، من خلال التنقل بين مختلف الصحف، واتباع نهج أعلام الصحافة وكبار الكُتاب ممن تركوا بصمة حفرها التاريخ في ذاكرته:"لن أنسى أيام عملي حينما كنت أعود من الجريدة بالمهندسين إلى منزلي في إمبابة مشيًا على الأقدام لعدم امتلاكي حق المواصلات بعدما قررت والدتي أن تقطع عني المصروف فور تخرجي لإجباري على ترك الصحافة".


يومًا بعد الآخر، ازدادت خبرة الصحفية الثلاثينية في المجال بعد عملها في كل ألوان الصحافة، حتى تمكنت من ثقل مهاراتها، فاتجهت إلى العمل الاستقصائي الذي قادها بدوره منذ عام 2009  إلى رحلتها فوق خط النار داخل مناطق النزاعات والحروب، والتي تمكنت من التنقل بينها دون علم أسرتها التي لم تعترف بمهنتها:"كنت أخفي وجهة سفري عن أسرتي حتى لا يخافوا، ومن ثم فوجئوا بأعمالي حينما نشرت".


أحداث بارزة وقضايا شائكة هددت حياة أمل صالح، بالخطر، إلا أنها على الرغم من ذلك لم تكترث لقدماها التي تتجاوز الضحايا بصعوبة ويداها الملطختان بدماء من حولها، بقدر ما كانت تستهدف البحث عن الحقائق التي تكشف المعاناة الفعلية التي يعيشها سكان هذه المناطق المحفوفة بالمخاطر، والتي كان الوصول إليها يضفي المتعة الحقيقية على العمل الصحفي:"الأستاذ محمد حسنين هيكل كان يرى أن أفضل خبرة للصحفي تكمن في الميدان الحربي، وحينها تولى تغطية حرب أكتوبر والعديد من الحروب العالمية، وهو ما خلق لدي رغبة العمل كمراسلة حربية للحصول على المعلومات التي لا يتمكن الجميع من الوصول إليها بسهولة، وهو الأمر الذي يثقل موهبة الصحفي ويجعله أكثر احترافية".




فمع انطلاق شرارة الحرب الأولى لغزة، كانت "صالح" أولى المتواجدين لتغطية الأحداث على الحدود حتى عام 2010، حينها انصب تركيزها على محافظة سيناء، والتي أجرت بداخلها سلسلة من التحقيقات الاستقصائية تتعلق بخطف الأطفال في شمال سيناء وحبسهم في السجون الاسرائيلية، بالإضافة إلى التحقيقات التي أجريت عن خطف الأفارقة المسافرين عبر شمال سيناء إلى إسرائيل، لسرقة أعضائهم وبيعها داخل المستشفيات الإسرائيلية.




وفي الوقت الذي انطلقت خلاله ثورات الربيع العربي عام 2011، اندفعت السيدة الثلاثينية، بكل ما أوتيت من جرأة لتغطية أحداث الثورة التونسية، فكانت أول صحفية تجري لقاءات مع زوجات كوادر المعارضة التونسية المغتالين، في الوقت الذي ظهرت فيه أول اغتيالات حقيقية في الدولة، بالإضافة لذلك، لم تتوانى عن تغطية الثورة المصرية داخل العديد من المحافظات، وفي المناطق المشتعلة بالقاهرة كأحداث الهرم وواقعة مكتب الإرشاد وبميدان التحرير.




لم يقتصر عمل "أمل" على هذه المناطق، فتوغلت داخل العديد من البؤر الساخنة، والتي كانت ليبيا أبرزها خلال الحرب الأهلية التي اشتعلت بين القبائل بسبب آبار البترول، حينما أعدت تحقيقًا استقصائيًا هامًا عن آلية هروب الإخوان إلى قطر عبر الحدود الليبية المصرية، وخريطة تهريب الأسلحة والمخدرات من هناك، فضلًا عن كتابتها للعديد من القصص المتعلقة بمعايشتها لمعاناة اللاجئين وللاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية منذ 2012.




دور الصحفية المغامرة أمل صالح، امتد للتطرق إلى موضوعات أكثر خطورة، فكانت الصحفية الوحيدة التي أجرت حوارًا مع مصدر فتوى إهدار دماء الضباط المشاركين في فض اعتصام رابعة والنهضة، فضلًا عن سلسلة من الحوارات التي أجرتها في غزة قبل أحداث 30 يونيو مع قيادات حماس بعد ظهور تصريحات بتبنيهم لمواقف جماعة الإخوان.




ترى "صالح" إن سياسة "الأرض المحروقة" هي النهج المثالي الذي يجب أن تسير عليه حينما تتواجد في قلب الميدان، فقبل أن تنطلق إلى وجهتها، تبدأ في وضع خطة لتحقيق استقصائي كبير يكشف عن معلومة خفية في البقعة التي تسافر إليها، وتعد الأسئلة للحوارات التي تنوي إجراءها مع بعض الشخصيات، ومن ثم تضع أفكارًا مبدئية للقصص الإنسانية التي تصف تفاصيل الوضع على الأرض: "أحيانًا وبمجرد أن تطأ قدماي أرض الحدث، يفرض الوضع ظهور قصص جديدة، وهو ما يساهم في تغطية كافة الأبعاد سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، وهو ما طبقته في تونس وليبيا وسوريا وفلسطين".




"الخوف شعور إنساني طبيعي كان يراودني ولكنه لم ينجح في السيطرة على أدائي لعملي"، من هذه العبارة، انطلقت السيدة التي تجاوزت عامها الثلاثون، لتصف كيف تمكنت من استغلال مشاعر الخوف التي كانت تنتابها لتصنع منها طاقة أكبر تدفعها للبحث عن خطط بديلة لإنجاز العمل تحت مظلة السلامة التي تحميها هي والطاقم المرافق لها:"لأن الأهم من القصة أن يعود الصحفي ليرويها".




ومن هذا المنطلق؛ لجأت الصحفية للالتزام بعدد من القواعد التي تساعدها على تأمين نفسها خلال العمل، والتي تلقتها من كبار الصحفيين وداخل العديد من المؤسسات الصحفية العالمية: "كان يجب أن أدرس كافة الخرائط  المتعلقة بالمنطقة التي أتوجه لها، لاستيعاب طبيعة المكان جرافيًا وسياسيًا وأمنيًا وإنسانيًا، للتمكن من وضع الخطة والخطة البديلة والبديلة عن البديلة في حال طرأت أي مفاجأة غير متوقعة، وهذا فضلًا عن وجوب تقنين استخدام التكنولوجيا والتي تسبب سوء استخدامها مسبقًا في القبض على زميلة لي في السودان".




لم يكن سهلًا على "أمل" أن تتواجد داخل هذه المناطق بصفة إعلامية لتغطية الأحداث في ظل حساسية الوضع، وهو ما دفعها برفقة طاقمها للتنقل بين الأماكن في مناطق يصعب تنبؤها كجزء من خطة الحماية والأمن، لتقودها الصدفة إلى مواجهة موقف مؤثر أثناء قضاء يومين داخل منزل أسرة سورية استضافتهم:"خلال تواجدنا هناك جاء للأسرة نبأ استشهاد طفلهم الصغير الذي قادنا إلى المنزل، وهو ما فرض علينا الالتزام بواجبنا الإنساني قبل المهني".


هذا الموقف المؤثر لم يكن الأول والأخير الذي يمر على "أمل"، والتي تعيش مع كل منطقة تتواجد بها، نزاعًا داخليًا بين عاطفتها التي تحتمها عليها الغريزة الأنثوية، وبين الموضوعية التي يلزمها بها العمل الصحفي: "عشت موقف إنساني مختلف حينما تعلق بي طفل يبكي بحرقة على الحدود السورية التركية، حيث أصر على الرحيل برفقتي إلى بلدي، وهو ما دفعني لقطع العمل والجلوس معه لقرابة ثلاث ساعات للعب معه وطمأنة قلبه الصغير حتى غلبه النوم على كتفي".




كان لشغف "أمل" بمهنة البحث عن المتاعب، تأثيرًا على حياتها الشخصية، فإخلاصها للعمل جعلها أكثر رفضًا لفكرة الزواج التقليدي الذي غالبًا ما ينتهي بتحطيم الأحلام التي منحتها سنوات عمرها بتفاني:"لذلك أرفض نوع الزواج الذي يقارن بين الشخص والعمل، فمن يحب حقًا لن يجعلك تتخلي عما تحبين".




وبالرغم من عدم حصولها على جوائز تقديرية لإنجازاتها الإعلامية الهادفة والتي عبرت لأجلها حدود الموت حتى صنفت في مؤسسة "بي بي سي" ضمن أفضل 100 إمرأة قوية على مستوى العالم، إلا أن هدف هذه الثلاثينية الشجاعة، كان أكبر من الماديات التي تعتبرها مجرد وسيلة للتحفيز وليست دليلًا على حقيقة المجهود والمحتوى المقدم: "فحلمي أن أكون مثل كريستين أمامبور وبيكي أندرسون وهالة جوراني، وهن كبيرات الصحفيات على مستوى العالم، باختصار شديد أرغب أن أكون صحفية تلفزيونية مؤثرة كما يجب أن يكون".