سفير فلسطين السابق بالقاهرة يكشف حالات الشد والجذب بين ياسر عرفات ورؤساء مصر

عربي ودولي

سفير فلسطين السابق
سفير فلسطين السابق بالقاهرة يكشف حالات الشد والجذب بين ياسر


مصر هى الأساس .. هكذا كان الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات يقول، وهى أم فلسطين استراتيجيًا. إذ لم تكن مصر بحاجة للورقة الفلسطينية كى تتاجر بها.. بهذه العبارة يسلط الإعلامى نبيل عمرو، والوزير السابق بالسلطة الفلسطينية، فى كتابه «ياسر عرفات.. وجنون الجغرافيا»، الصادر مؤخرًا عن دار الشروق، الضوء على علاقة الزعيم الفلسطينى بالرؤساء المصريين الثلاثة، الزعيم جمال عبدالناصر، وأنور السادات، والمخلوع محمد حسنى مبارك، فيوضح «عمرو» باعتبار أنه كان المساعد اللصيق للزعيم أن عرفات كان ينظر لأى أمر يتعلق بمصر على الدوام ظل ينطلق من أرضية اليقين بحقيقة ثابتة، وهى أن مصر هى حجر الزاوية، وأن من لا تكون مصر معه، سيصعب عليه إكمال أى شوط فى سياساته المحلية والخارجية، وأن تقويم عرفات للقادة المصريين هو جزء من تقويمه لمصر كلها دون التدقيق المفرط فى خصائص أى منهم.

وحول علاقة عرفات برؤساء مصر الثلاثة، يوضح «عمرو» أثر تخلى «عبدالناصر» عن حذره تجاه عرفات ورفاقه وحركته ومشروعه، حيث كانت خلفية الزعيم الفلسطينى «الإخوانية» كافية لتغذية حذر الرئيس القومى والثورى منه، إلا أن حسابات ما بعد يونيو 1967 وكفاءة «فتح» فى إثبات خلوها المطلق من رواسب «الإخوان» وحتى الأحزاب الأخرى جعلت «عبدالناصر» يغير موقفه، وقد رأى «عبدالناصر» أن «فتح» و«عرفات» والظاهرة الفلسطينية النامية بعد يونيو تستحق الاستثمار، فى زمن الشعور العربى الجماعى بالهزيمة والحاجة لتعويضها، بالإضافة إلى أن وجود مساعدين مستنيرين ذوى فكر عصرى فى محيط «عبدالناصر» مثل محمد حسنين هيكل، أسهم فى إقناع الرئيس عبدالناصر، بمزايا حركة ثورية وليدة، يمكن أن يجرى ترويضها وتأمين ولائها بالدعم والرعاية والاحتواء، وأن هؤلاء بينوا خطر ترك «فتح» بعيدًا عن جاذبية «عبدالناصر»، وما قد يفضى إليه تركها من خطر وقوعها فى قبضة نظامين مختلفين إلا أنهما ليسا حليفين لمصر، هما الأردن حيث الجغرافيا الأولى والتجمع البشرى الأول لـ«فتح» وسوريا، حيث الوضع التاريخى والجغرافى والسياسى الكفيل بنهوض ألف اعتبار وجيه يدعوها للسيطرة على كنز فلسطينى سياسى ومعنوى لا حصر لمزاياه، هو الثورة الفلسطينية، وأنه ما أن أمَّن الأول للثانى باباً سوفييتًا ثمينًا، حتى انتقل «عرفات» من واقع قائد مشروع محلى إلى زعيم إقليمى.

ويقول سفير فلسطين فى القاهرة حتى عام 2009، إن ذلك أدى إلى عشق «عرفات» للزعيم جمال عبدالناصر، وتعلق به، وامتلأ يقينًا بأنه ما دام -عبدالناصر- على قيد الحياة السياسية فهذا يكفى للاطمئنان على الثورة الفلسطينية حاضرًا ومستقبلاً. لقد تغذى «عرفات» على جملة قالها «عبدالناصر»، وهى الجملة التى أصبحت شعارًا وشهادة إثبات جدارة «إن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى» وهو ما وفر لـ«عرفات» صدر بيت بليغ وهو عجزه، حين أكمل «وأنا أضيف: ولتنتصر». ومرة واحدة وصلت علاقة «عرفات» بـ«ناصر» لحافة الخطر. جرى هذا حين فوجئ الرئيس الكبير بتشهير طاله فى شوارع عمان وغيرها من العواصم، وربما بعض شوارع فلسطين حين قبل «عبدالناصر» بمشروع روجرز فى عام 1970، فغضب «عبدالناصر»، وانصب غضبه على الفلسطينيين الذين تورطوا فى أن يكونوا واجهة التظاهرات التشهيرية هذه، بعد أن كانت عواصم العرب لا تتظاهر إلا تأييدًا له ودعمًا لقراراته الثورية، وصدر عن الإعلام المصرى انتقادات لـ«عرفات» واتهم بقلة الوفاء، وهو ما جعل «عرفات» يذوق طعم الجفاء المصرى الذى لم يتعود عليه، خاصة وهو فى عمان، حيث لن يفوت الملك فرصة اختلاف «عرفات» مع «ناصر» بما لذلك من مضاعفات مقلقة، فشرع «عرفات» فى التوسل لكل من يستطيع كى يوصله لـ«عبدالناصر لطلب الغفران»، وحينما التقى بـ«ناصر» وعفى عنه قال لعرفات: «لو كنت مكانكم لاعترضت على مشروع روجرز» إلا أنه عف عن أن يقول ما كان لازما أن يقال «كان ينبغى أن يكون اعتراضكم على موقفى أكثر تهذيبًا». وبوفاة «عبدالناصر» شعر «عرفات» بخسارته الفادحة، خاصة بعدما أعلن «السادات» اختلافه عن سلفه الراحل، فغير العلم، واسم الدولة، من «الجمهورية العربية المتحدة» إلى «جمهورية مصر العربية» فشعر بأن هذا يعبر عن مصرية زائدة، على حساب الصورة العربية التى ميزت «ناصر» إلا أن «عرفات» كان مطمئنًا إلى أن «السادات» سوف يواصل ولكن بطريقته الخاصة سياسة مصر فى دعمه، والإفادة منه بما هو صديق وحليف، ولكن لم يلبث أن شابت اضطرابات متواترة العلاقة المستقرة أساسًا بين «عرفات» و«السادات»، وقد حدث هذا مع ظهور هواجس مبررة فى داخل «عرفات» جراء تعامل «السادات» مع نتائج حرب أكتوبر 1973، وزيارته المدوية للقدس فى 1978 ثم اتفاقاته مع إسرائيل، كان «السادات» حريصًا على أن يتأبط ذراع «عرفات» فى كل خطواته تجاه إسرائيل، ولكن لم يكن «عرفات» بقادر على اللعب مع «السادات» على طريقته الدرامية، وكان «عرفات» مضطرًا لإجراء حسابات أكثر دقة لمصالحه ومجالات حياته السياسية، لم يكن أمامه من خيار سوى ترجيح كفة الجغرافيا اللبنانية السورية، فكان الدخول العرفاتى على مضض إلى القفص السورى، وخروجه من حسابات «السادات» ورهاناته إلى الأبد.

ويقول «عمرو»: قتل «السادات»، وجاء «مبارك»، ومصر هى مصر، فى حسابات «عرفات» وتطلعاته وحاجاته، وكانت دورة «عرفات» داخل القفص السورى الاستراتيجى قد قطعت مدى زمنيًا يكفى لدفعه ولو سرًا إلى طرق باب مصر من جديد.. كان مضطرًا للاصطفاف وراء سوريا ضمن إطار جبهة الصمود والتصدى، إلا أن «عرفات» كان دائم الإفصاح عن أن جبهة الصمود والتصدى لا مستقبل لها، وكان حنينه لمصر يشده نحو فتح قنوات سرية أو شبه علنية مع الرئيس الجديد.

ومثلما فعل «السادات» يوم أنقذ «عرفات» بإرساله إلى لبنان فى الأيام التالية للدخول العسكرى السورى إليه، فقد قام «مبارك» بشىء مشابه، ولكن هذه المرة بإنقاذه من طرابلس لبنان، حين أخرجه من جوف الحصار ونقله إلى المدى الأوسع، أيامها قيل له «إنك خرجت نهائيا من جغرافيا القتال إلى جغرافيا الحل السياسى، أى أن حيز المناورة أمامك قد اتسع، أما الضغوط السورية عليك فلم تعد مؤثرة».

كان «عرفات» قريبًا جدًا من «مبارك» وازداد اقترابه منه حين أنقذه هذا الرئيس من الحصار الخانق فى طرابلس لبنان، فلقد تعاون «مبارك» مع الفرنسيين وأنقذ الرجل من نهاية كان يمكن أن تصير فاجعة، حيث لم يبق له من الجغرافيا اللبنانية إلا موطئ قدم لا يتجاوز مئات الأمتار المربعة فى مخيم البداوى الملاصق لمدينة طرابلس على شاطئ البحر، كان «مبارك» هو من وفر لـ«عرفات» إفلاتًا من محاولة تصفية سياسية جسدية محققة، إلى جانب رصيد سياسى قوى ومميز، توافر من استئناف التحالف العلنى بينه وبين القاهرة، فلقد تبخرت تحفظات «عرفات على ما كان يسمى بنظام «كامب ديفيد» وعادات حسابات «عرفات» وسياساته إلى وضعها البديهى، فصارت الأكثر تأثيرًا والأقوى حضورًا فى قراراته وحساباته. إلا أن عاصفة ثارت وكادت تؤثر جوهريًا على المزاج المصرى تجاه «عرفات» ونظامه الوليد.