د. رشا سمير تكتب: عندما تسقط الجوائز الأدبية فى فخ «السبوبة»
هناك مناطق شائكة تفتح النار على من يجرؤ ويخطو إليها، وهناك رمال ناعمة تبتلع كل من يطأها بقدمه أو بقلمه، هناك أماكن محظور الاقتراب منها أو حتى التصوير. هذه المناطق هى كل المواضيع التى تعلمنا منذ طفولتنا أننا يجب ألا نشير إليها أو نفتح غطاءها حتى لا تنفجر فى وجوهنا، أصبح كل من يقترب من منطقة الخطأ بمجرد الإشارة أو الاعتراض، هو حاقد أو كاره أو باحث عن شُهرة.
هكذا تربينا على سياسة الخوف من خوض المعارك، وهكذا بات شعارنا فى كل المراحل: «واحنا مالنا»!.
الحقيقة أنه مالنا ومالنا ومالنا، لأن مصر هى كل ما لنا، وعندما يصل الأمر إلى الانحدار الثقافى والمجتمعى، يصبح التدخل حتميا ولو بالكلمة، وهذا أضعف الإيمان.
ما حدث فى كأس العالم على سبيل المثال لم يكن مجرد هزيمة أو انتكاسة، ما حدث يمكن تلخيصه فى كلمة واحدة هى سبب كل ما يُعانيه المجتمع المصرى الآن من تردى، السبوبة!.
السبوبة فى مصر هى شبكة علاقات وتربيطات ومصالح تتحكم فى كل شيء وأى شىء وتقايض على كل القيم والمعانى المحترمة، حتى الدين دخل فى نطاق السبوبة حين تحول بعض الدُعاة إلى تجار يتاجرون بالكلمة والفتوى من أجل المصالح الشخصية.
فالداعية النحنوح يقوم بعمل دعاية لفراخ التقوى التى تمنحك مكانا فى الجنة! والداعية الحبوب يصف كل من يتزوج امرأة غير محجبة بأن رجولته منتقصة، ثم يتزوج هو شخصيا من امرأة غير مُحجبة!..
مؤخرا طال التردى الثقافة والفكر، متمثلا فى جوائز الدولة التقديرية وجائزة نجيب محفوظ، حيث استشاط المثقفون عقب إعلان أسماء الفائزين، ومن بعدها قامت الدنيا ولم تقعد على صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعى مُلقين اللوم على وزارة الثقافة.
دائما وأبدا هناك من هم مع الفكرة لمجرد أنهم مستفيدون منها، وهناك من هم ضد الفكرة لمجرد أنهم من هواة الاعتراض أو لأن السبوبة لم تطولهم، وفى المنتصف يقف قليل من المخلصين الذين يتصدون للباطل مدافعين عن الحق بضمير، وما أقلهم!.
1- جوائز عربية
المعايير الحقيقية التى تُقاس عليها الجوائز فى العالم العربى اختلت بشدة فى السنوات الأخيرة، فاختيار الأفضل هو مسئولية جسيمة تقع على عاتق لجان التحكيم، أما معايير السوق والسوشيال ميديا فالمفترض أن تكون أبعد ما يكون عن الاختيار.
ما زالت المكتبات فى أمريكا وأوروبا تضع روايات دانييل ستيل على رف وروائع إيرنست همنجواى فى قاعة بمفردها، والفيصل دائما هو القيمة الأدبية رغم فرق المبيعات.
جائزة المان بوكر الإنجليزية على سبيل المثال كانت المُلهم لنا نحن العرب فى ابتكار جائزة مشابهة فأنشئت البوكر العربية، ووسط ظهور جوائز عربية قيمتها المادية بالملايين مثل جائزة الشيخ زايد وكتارا وجائزة مؤسسة عويس، ما زالت مصر تحاول الوقوف قدما إلى قدم وسط هذه المنافسة الثقيلة لاستعادة مكانتها الثقافية العظيمة التى تراجعت بسبب العناوين الغوغائية وظاهرة الأكثر مبيعا التى لم تعد تعتمد إلا على السوشيال ميديا والمعارف.
جوائز وزارة الثقافة
هناك قوانين تحكم لجان التحكيم والجوائز فى مصر، وكانت هناك دوما نية لتحديث تلك القوانين حتى لا تظل الجوائز فى نطاق الشللية والمحسوبية، تم هذا بالفعل مؤخرا فى تعديل قانون رقم 8 لسنة 2017 الذى أقره البرلمان.
جوائز الدولة هى: (جائزة النيل -جائزة الدولة التقديرية - جائزة الدولة للتفوق- جائزة الدولة التشجيعية).
أما جائزة نجيب محفوظ وحتى لا يحدث خلط هى عنوان لجائزتين مختلفتين، جائزة أدبية تمنح لإحدى الروايات الحديثة فى حفل يقام كل عام فى 11 ديسمبر، المسئول عن هذه الجائزة ومؤسسها هو قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث تبلغ قيمتها ألف دولار.
وأخرى بنفس الاسم تتبع المجلس الأعلى للثقافة وقيمتها 50 ألف جنيه، كانت قد توقفت لفترة طويلة بنهاية التسعينيات ثم عادت إلى الساحة مرة أخرى هذا العام وهى التى تمنحها وزارة الثقافة لأفضل رواية عربية.
2- جائزة نجيب محفوظ 2018
ما حدث هذا العام فى جائزة نجيب محفوظ وضع المجلس الأعلى للثقافة فى قفص الاتهام، لأن هناك قائمة طويلة تم نشرها على مواقع التواصل الإجتماعى يوم 20 مايو 2018 تضم عشر روايات، نصفها على الأقل يمكن تصنيفه كعمل هزيل فنيا، وهناك ضمنها رواية أقل ما يقال عنها إنها عمل ردىء رفضته أغلب دور النشر الكبرى نظرا لمحتواها الضعيف.
فوجئ الوسط الأدبى بهذه الأسماء، وانهالت الاتهامات على الوزارة..فالجائزة ليست جائزة خاصة ولكنها جائزة تحمل اسم أديبنا العملاق وتحمل اسم مصر، ولا يصح فى ظل دول لها قامتها الثقافية وبها من الأدباء أعظمهم، أن تُهدى جوائزها إلى أرباع المُبدعين!.
فجأة ظهرت بعدها وبقدرة قادر قائمة الأعمال الفائزة وهى (رحلة دم) لإبراهيم عيسى و(نقطة نظام) لصبحى موسى، الغريب حقا وهو ما اعتبرناه ظاهرة كونية مُحيرة، أن الأعمال الفائزة لم تكن أصلا ضمن القائمة الطويلة للترشيحات، فمن أين أتوا؟!.
بعد تواصلى مع المجلس الأعلى للثقافة جاءنى الرد التالى، إن ما نُشر على مواقع التواصل الإجتماعى كان قائمة فردية لشخص واحد ضمن أعضاء لجنة التحكيم وتم تسريبها عن طريقه هو شخصيا للصحافة لمصلحة أشخاص بعينهما!، كيف؟
ببساطة شديدة هناك لجان تحكيم وليكن عددها عشرة أشخاص تختار 10 أعمال من ضمن الروايات المقدمة، ثم تذهب هذه القوائم العشر إلى المجلس الأعلى للثقافة لاختيار القائمة القصيرة ثم الفائزين، والأسماء التى نُشرت هى القائمة الأولى التى صوت لها أحد أعضاء اللجنة وهى لم تكن فى الحقيقة الأسماء التى فازت بالقائمة الطويلة.
هنا تدخل المجلس الأعلى للثقافة بتكذيب ما نُشر، ومن المقرر الاستغناء عن هذا العضو فى اللجنة القادمة، هذه هى الحكاية كما حدثت.
الأزمة الحقيقية من وجهة نظرى هى تلك اللجان التى تتشكل للتحكيم فى كل جائزة، إنها أسماء يجب أن تحكمها فقط المهنية والحيادية والثقافة، ولأن المسألة أصبحت شبكة علاقات فيجب أن تُنتقى تلك الأسماء بدقة.
نحن ما زالت ثقتنا كبيرة فى وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم، فهى سيدة قوية وتعلم قواعد اللعبة جيدا منذ كانت رئيسة الأوبرا، وأتمنى أن تتمكن من إحكام قبضتها بقوة على دفة الأمور كما عودتنا بعيدا عن شلة المنتفعين.
أقدر لها قرارها بأن تُصبح جائزة نجيب محفوظ عالمية بدءا من دورتها القادمة والإستعانة بأعضاء لجان تحكيم من جنسيات متعددة حتى تتمتع الجائزة بشفافية الإختيار، فمصر تستحق أن يكون لها جائزة كُبرى تقف قدما إلى قدم بل تتفوق على الجوائز العربية الأخرى.
أهمس فى أذن سيادة الوزيرة بأن الثقافة هى واجهة أى دولة، ومصر دولة عظيمة لها تاريخها الثقافى والحضارى، فأرجو أن يتم إحسان اختيار من يمثلها فى المحافل والجوائز والتكريمات، معايير الاختيار يجب أن تكون الإبداع الحقيقى والاستحقاق الصادق دون الأخذ بأى اعتبارات أخرى.
3- جائزة الدولة للتفوق
ما أن فاز الكاتب الشاب أحمد مراد بجائزة الدولة للتفوق فى مجال الآداب حتى انفجر بركان كان خامدا على صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعى.
وصفت الأقلام الاختيار بأنه هزلى، ووصفه النقاد بأنه قرار أضاع اسم الجائزة لأنه كاتب السُلطة بحسب كلمتهم، وتوجهت الطلقات هادرة إلى صدر وزارة الثقافة تتهمها بالانحدار والانهيار والانحياز.
الحقيقة أنا لست ضد الكاتب الشاب على الرغم من أننى لم أكن يوما من قرائه، أو ربما أننى حاولت وفشلت!، لكنه مما لاشك فيه شاب خلوق ومجتهد.
كاتب وسط عمالقة الأدب فى مصر والعالم العربى هو مجرد شاب متواضع الموهبة صنعته الدعايا والميديا، لكن الغلطة من وجهة نظرى لم تكن غلطة وزارة الثقافة، فالأسماء المرشحة لم يكن فيها عمالقة!.
ما حدث أن ترشيح أحمد مراد لجائزة التفوق جاء من خلال مجلس إدارة أكاديمية الفنون، وبعد فوزه بالجائزة قيل إن هذا مُخالف للقانون لأن الجائزة تشترط أن يكون عُمر المبدع فى مجال الأدب 15 عاما على الأقل، وهو لم يبدأ الكتابة إلا من عام 2007، بعد صدور أول رواية له وهى (فيرتيجو) أى منذ 11 عاما فقط!.
فكان رد المجلس الأعلى للثقافة أن الجائزة غير مرتبطة بالاختصاص، الفيصل فى المترشح أن يكون له أعمال أو إنجازات تشهد له بالتفوق فى أى مجال، وبحسب تصريحاتهم فإن أحمد مراد له سيناريوهات عدة وأعمال فنية.
هنا يجب أن أهمس فى أذن المجلس لأعاتبهم وأقول، إن أول سيناريو كتبه أحمد مراد كان لروايته الفيل الأزرق عام 2014 كما تحولت رواية فيرتيجو لمسلسل عام 2012 (الخطأ يا سادة لا يجب أن يتم تداركه بخطيئة)!.
كالعادة تنصل الجميع من الرد وكان أولهم مقرر لجنة فحص المرشحين للفوز بجائزة التفوق الكاتب يوسف القعيد قائلا: إنهم ليسوا معنيين بالفحص ولكن بالناحية الأدبية فقط لمحتوى الروايات!.
لم أكتف بتصريحات المجلس وقررت أن أفهم الأساس الذى تم عليه اختيار الفائز، وبسؤالى لبعض أعضاء اللجنة جاءتنى الردود كالآتى: (هو كاتب قام بعمل حراك مجتمعي) و(صحيح نحن لم نقرأ له كثيرا ولكنه شاب مجتهد واسمه مسمع)!.
أنا هنا لا ألوم الكاتب الشاب الذى استقبل الجائزة بفرحة عارمة وهذا من حقه، لكنى وبحق أشعر بحزن شديد على مصر رحم الثقافة والإبداع، بلد نجيب محفوظ والعقاد وإحسان عبد القدوس وطه حسين، فالذين يُحكمون للأسف لا يقرأون!.
لست ضد إبداع الشباب ولست ضد إعطاء المواهب الحقيقية فرصة بل أنا من المعجبين بالكثيرين على الساحة، لكننى ضد التردى والمحسوبية والسبوبة.
سؤال أسأله لنفسى كلما نظرت حولى لأرى نفس الوجوه المزيفة التى تعتلى الساحات والمنابر، متى تسقط دولة السبوبة؟!.