أحمد فايق يكتب : أشباح مرسى تطاردنى فى المغرب
فى الطريق من الدار البيضاء إلى مدينة تطوان أقصى الشمال المغربى، دار الحديث بينى وبين رفقاء الرحلة المخرج محمود كامل وطارق أبو يوسف الذى يعمل بالشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائى حول جودة الطريق السريع بين المدينتين، وعدم وجود مطبات به، فهو لا يختلف كثيرا عن الطرق التى نسير عليها فى أوروبا، وإشارات المرور المنتظمة، والتزام السائقين بقواعد المرور، والتواجد المكثف للشرطة عليه لحماية المارين به، حتى يفاجئنا سائق السيارة بأن من ساهم فى إنشاء الطريق هو شركة المقاولين العرب المصرية، ولما سألت لماذا لا تشيد مثل هذه الطرق فى مصر، قال هنا توجد دولة تحاسبهم ولا يستطيعون تسليم الطريق به أخطاء وإلا سيدفعون الشرط الجزائى فى العقد، طوال خمس ساعات كنا نستنشق الهواء مثل البلهاء، فنقاء الجو مستفز للشعب الهوائية بصدرنا، فقد زالت كل عوارض الجيوب الأنفية المزمنة التى تصيبنى يوميا فى القاهرة، على اليمين واليسار جبال خضراء ترويها مياه الأمطار ترى الثروة الحيوانية على الجبال تتغذى على الأعشاب الطبيعية، لذا لا تتعجب حينما تجد فى المغرب أن كل شىء له طعم مختلف من الخضار للخبز وحتى اللحوم والأسماك، فالطبيعة هناك أقوى من تلوث القاهرة ومصارف المصانع فى النيل وعادم السيارات، كنت أتحدث مع رفقاء الرحلة بحيوية حول المغرب التى لا يعرفها إلا من وقع فى غرامها، فبعض الجهلة يختصرون هذه البلاد فى النساء والحشيش ومن يعرف المغرب جيدا سيكتشف الحقيقة فليت كل نسائنا مثل نسائهم
.
حينما تتحول المرأة من «مزة» إلى شرطية
فى مدخل سينما «أبنيدا» وجدت فتاة جميلة، لا تضع مساحيق التجميل على وجهها، تنظر بعينيها الواسعتين يمينا ويسارا فى مزيج رائع بين الحزم والأنوثة، ترتدى ملابس الشرطة، دفعنى فضولى لسؤالها عن طبيعة وظيفتها، فقالت أنها تعمل مندوبة شرطة تلقت التدريب لمدة 8 شهور، وتتمنى أن تصبح فيما بعد مندوبة إقليمية، سألتها هل يوجد نساء كثيرات يعملن فى الشرطة المغربية قالت «بالزاف»، وهى كلمة تعنى الكثير من النساء يعملن فى الشرطة، قالت “المرأة فى المغرب تعمل فى جميع المجالات، وتلقى تشجيعا ودعما من الملك شخصيا، سألتها هل توجد سيدة فى الشرطة المغربية تحمل رتبة “لواء”، قالت هناك الكثير منهن تحمل رتبة لواء، ويتحملن مسئولية تأمين مناطق بأكملها، ويعملن فى جميع المجالات الشرطية من مرور ومباحث ومطارات وسجون، سألتها «هل يحاولون معاكستك فى الشارع أو التحرش بك؟»، ضحكت قائلة: وهل يجرؤ أحد على التحرش بشرطي؟
فالمرأة فى المغرب تعمل، وتتحمل جزءاً من ميزانية المنزل مثلها مثل الرجل، وتترشح فى أعلى المناصب بالدولة، وهناك دفعات كاملة من كلية الشرطة المغربية من نساء فقط، فلا تتعجب حينما تمر بالسيارة فى أحد الشوارع وتجد لجنة تترأسها شرطية، تطلب منك رخص السيارة وتفتشها أيضا فى وقت متأخر من الليل، الشرطة النسائية سمة تميز بلاد المغرب العربى فى الجزائر والمغرب وتونس، ومؤخرا بدأت الأمور تتغير فى تونس، وهذا ماتستطيع اكتشافه فى فيلم المخرج التونسى نورى بوزيد فى فيلم «مانموتش» فقد بدأت نظريات أم أحمد وأم أيمن تسود فى أكثر البلاد العربية احتراما لحقوق المرأة.
فيلم كاد أن يقتل صاحبه على يد إخوان تونس
يعتبر المخرج التونسى نورى بوزيد واحدا من كبار المخرجين على الساحة العربية، بعد الثورة تعرض للضرب على رأسه من السلفيين، وحينما شرع فى عمل فيلمه الجديد «مانموتش» تلقى تهديدات بالقتل والتكفير من السلفيين وأنصار حركة النهضة «الإخوان المسلمين فى تونس»، لكنه أصر على إكمال طريقه وخرج الفيلم للنور أخيرا، وحصل على الجائزة الكبرى فى مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، ثم عرض فى المسابقة الرسمية لمهرجان تطوان.
زينب وعائشة صديقتان إحداهما ترتدى الحجاب والأخرى لا، ومن خلالهما نرى تونس قبل رحيل بن على بيوم واحد، فى مشهد البداية نرى مشاهد لشهداء الثورة التونسية، ولقطات تستمر معنا طوال الأحداث لعملية غسل إحدى الجثث يقوم بدورها مخرج الفيلم نفسه نورى بوزيد، نرى حمزة الذى يخرج بعد سنوات من السجن، يذهب لمنزل العائلة ليلتقى بشقيقته زينب غير المحجبة، اللحظات الأولى عناق وحب بينه وبين العائلة لتتحول فيما بعد إلى قهر وتطرف، فهو ينتمى لحركة النهضة، ولا يقبل الخمر وعدم ارتداء الحجاب فى منزله، أما زينب فهى تقترب من الزواج بأحد المقاولين، وهو بالنسبة لها والعائلة «عريس لقطة»، شاب ..ثرى ..علمانى، لكن العريس يرضخ لضغوط أمه ويشترط أن تتحجب زينب حتى يقبل الزواج منها، فهو يراها فرصة مميزة لإرضاء أمه من جانب والتقرب للنظام الجديد من جانب آخر، لذا يتحالف مؤقتا مع شقيقها حمزة ويتفننان فى قهر بطلتنا التى تعانى طوال الأحداث، هنا نرى التناقضات بين الشخصيات، فالعريس يتناول النبيذ مع والد العروسة ويريد فرض الحجاب على زينب، والأخ حمزة يعترض على الخمور فى المنزل ويتعامل بعنف مع العريس، فالتطرف درجات، وحتى حمزة الذى يدعى التدين والتقرب إلى الله يطارد عائشة المحجبة صديقة أخته ويتحرش بها، هنا نرى ثلاثة مستويات من التطرف، الأول العريس الذى يفرض الحجاب ويتناول الخمور والأخ الذى يرفض الخمور ويفرض الحجاب لكنه يبيح لنفسه التحرش والحب فى الظلام، والمستوى الثالث من مجموعة من السلفيين الذين يضربون الأخ بعنف ويكونون ميلشيا أقرب لجماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
فالمرأة والجنس هما محور أحداث الفيلم والثورة التونسية والحياة، والمسائل نسبية بين الجميع، والتطرف لا دين له، نرى هنا النموذج المناقض تماما عائشة التى ترتدى الحجاب ويحاول صاحب العمل أن يجبرها على نزعه، ويتحرش بها دائما، صاحب العمل الذى يمثل النظام القديم ويسخر من الثوار ويعتبرهم مجموعة من البلطجية، فبطلاتنا يقفن ضحية لنظام علمانى يصادر حرية المرأة وآخر دينى يختصرها فى حجاب ولحية، وكأن الفاشية الدينية والسياسية تتفنن فى قهر النساء، وبدلا من أن يبحثوا عن تنمية تونس وخلق وطن جديد فيه عدل وحرية، ظلوا يطاردون النساء ويشكلون فرقاً من السلفيين للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فنيا لم يساو الفيلم تاريخ مخرجه، وبدا مباشرا وفجا فى بعض الأحيان، وخرج عن أهم قيمة فى السينما وهى طرح التساؤلات بلا توقف والتأمل والبحث عن ماوراء الثورة، لكنه يحمل رسالة مهمة إلى كل من يحاول قمع الحرية فى تونس وهى عنوان الفيلم «مانموتش»، لن نموت حتى لو قتل المتطرفون عازف الأوركورديون فى الحى، ولن نموت لو سلبتم من عائشة وزينب حريتهما، فقد أصرت زينب على عدم ارتداء الحجاب، وأصيبت بمرض نفسى حررها منه الشارع حينما هتف الشعب يريد إسقاط النظام، ورفضت عائشة أن يتاجر صاحب العمل بجسدها، فالمقاومة تنتصر دائما، وتعيش فى ذاكرة التاريخ والاحتلال والقهر يذهبان إلى فى طائرة إلى السعودية أو أفغانستان.
حكومة إسلامية تسقط فى بلاد الملك
يتمتع ملك المغرب بذكاء شاب وصل إلى كرسى السلطة، علم أن الأمريكان يريدون تشجيع اليمين المتطرف فى العالم لضرب اليسار من جهة، ومواجهة ثورة الفقراء التى تقترب على الاندلاع فى أوروبا من جهة أخرى، ودعم اليمين المتطرف ليس على مستوى الإسلاميين فقط بل أيضا على مستوى اليهود والمسيحيين، إمبراطورية رأس المال التى صنعها النظام الأمريكى، بدأت فى الانهيار منذ أزمة الرهن العقارى، وبدأ فقراء أوروبا والشرق الأوسط فى الشعور بأن 1% من سكان كوكب الأرض يحتكرون 90% من ثرواته، تذكرت هذا الشاب الذى يدرس فى جامعة بازل السويسرية، حينما كنا نجلس فى شرفة منزله، وأشار إلى مجموعة من المزارع والفلاحين قائلا “أنتم تعتقدون أن كل السويسريين يعملون فى قطاع البنوك ويتقاضون الملايين.. هذا غير حقيقى هم لا يمثلون 2% منا، واقتصادنا الحقيقى الشعبى قائم على الزراعة، وقال مبتسما أتوقع تغييرا كبيرا قادما، بدأ بالفعل من حركة «احتلوا وول ستريت» وفى إسبانيا واليونان وقريبا فى سويسرا، هذه الحركات تخشاها أمريكا ومن الطبيعى أن تدعم اليمين المتطرف لمواجتها، فلا يقهر الفقر إلا المتاجرة باسم الله، واليمين المتطرف سواء كان إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً بينه وبين الرأسمال علاقة عشق، فمن يتاجر باسم الله من السهل عليه أن ينهب أموال الفقراء.
فى المغرب بدأت الاحتجاجات أثناء ثورات الربيع العربى من خلال حركة 20 فبراير، التى ضمت من أقصى اليمين لأقصى اليسار، تزعمها الشباب الحالم بنظام قائم على العدالة الاجتماعية، وكالعادة انسحب حزب العدالة والتنمية «إخوان المغرب» من الحركة، ولهثوا وراء صناديق الانتخاب وفازوا بشكل ديمقراطى كى يشكلوا الحكومة، ذكاء الملك فى أنه احتوى هذا التوجه العالمى، مرحبا بالحكومة الإسلامية لكن عليها أن تعمل فى إطار المملكة المغربية، وتكمل مشروعات التنمية التى قام بها الملك، فقد نجح هذا الرجل فى بناء شبكة طرق ومواصلات من أقصى الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، مدن سياحية وأخرى تجارية وثالثة صناعية، احترام كامل للمرأة وللحريات الشخصية، فلا تستطيع الحكومة الإسلامية أن تغلق ملهى ليلى أو ديسكو، أو تمنع محلاً يبيع الخمور، واعتبار الأقلية اليهودية جزءاً من المغرب، لا يتم التعامل معهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فالملك لديه مستشار سياسى يهودى، وحرية العبادة مكفولة للجميع، خطبة صلاة الجمعة موحدة فى جميع مساجد المغرب، ومن الحكايات الشعبية التى يرويها الشارع عن الملك وهى غير موثقة إلى الآن أنه ذهب إلى أحد الشواطئ بنفسه ووجد مجموعة تنزل البحر بالجلابيب فأجبرهم على ارتداء ملابس البحر احتراما للدولة التى لا تفرق بين مواطن وآخر على أساس الجنس أو الدين أو العرق، الأساطير الشعبية فى الشارع توضح لك أن الملك محبوب بالفعل، فقد تخلى عن وسائل قمعية كان يستخدمها والده الملك الحسن الثانى، اهتم بتنمية الشمال المغربى بعد تجاهل متعمد من السلطة التى سبقته، ولما حاولت الحكومة المغربية السعى لأخونة الدولة وقف أمامهم الشعب والقصر الملكى والمثقفون، فحينما اعترض أحد الوزراء على قبلة فى فيلم كان يعرض على الطائرة، رد عليه أحد المثقفين المغاربة بقبلة ساخنة فى الطائرة لزوجته وصورها ونشرها على الفيس بوك، لم يعترض أحد على بث الأذان فى التليفزيون الرسمى المغربى وتعريب المضمون، لكن الشعب اعترض على الحكومة حينما رفعت الأسعار دون زيادة فى الدخل، خرج آلاف فى مظاهرات يطالبون بإسقاط الحكومة الإسلامية التى تطبق نفس سياسات مرسى الاقتصادية.
افلام مصرية كفيلة بإدانة نظام كامل
عرض فى المهرجان فيلمان مصريان، الأول هو «الخروج للنهار» للمخرجة هالة لطفى، ومن يشاهد هذا الفيلم سيخرج بنتيجة واحدة يجب أن يسقط هذا النظام الكافر بالحياة وحقوق المواطنين، فالبطولة هنا نسائية كاملة لأم وابنتها يعيشان فى جو قاتم يرعيان الأب الذى يعانى من شلل وأمراض أخرى، فتاة فى سن الشباب سلب منها الفقر كل شىء حتى الحب والحياة، فهى يوميا تبدل للأب ملابسه وتطعمه وتعطيه الأدوية، يجعلك الفيلم تعيش حياتهما السوداء، حتى الألوان القاتمة تعبر عن حالة مصر الآن وبيوتها، وتحمل طعم كل بيت شعبى فى مصر، فحينما تذهب إلى أحد المستشفيات وتجد الممرضة متجهمة فى وجهك فلا تغضب فقد تكون هذه السيدة هى «حياة» بطلة فيلمنا، هذه السيدة التى تعيش حياة تتناقض مع اسمها، فهى ميتة، فقدت كل شىء، حتى ابنتها فقد تحولت إلى آلة من الحزن المتحرك، رائحة الفقر تفوح من كل كادر، نجحت المخرجة فى أن تحول الكاميرا من مجرد عين ترصد المشاعر إلى رفيق للأم وابنتها والأب فى حياتهم، تبكى مثلهم وتعانى معاناتهم، حتى فى أحد المشاهد التى تم تصويرها داخل ميكروباص نرى الكاميرا تترنح مثل الركاب مثل الشارع الملىء بالمطبات وغير الممهد للسير والحياة عليه، إنها ليست معاناة إنسانية لأسرة فقط، بل شهادة إدانة لنظام كامل لا يحترم آدمية المصريين، الفيلم من أجمل الأفلام المصرية التى شاهدتها منذ سنوات ويحتاج إلى الكتابة عنه أكثر فى مقالات أخرى، والقضية التى يطرحها لم تختلف كثيرا عن قضية فبراير الأسود للمخرج محمد أمين الذى تحدث عن بلد يحكمها قانون ساكسونيا، ففى إطار من الكوميديا السوداء نرى الأسرة غرقت فى الرمال المتحركة مع آخرين، هذا المشهد يلخص حالة مصر الآن، فحينما جاءت الشرطة أنقذت فى البداية لواء من أمن الدولة، ثم أنقذت أسرة القاضى، ثم بحثت عن رجل الأعمال وعائلته، أمام أسرة من العلماء لا تهم الدولة فى شىء، والموت هو مصيرهم المتوقع، هنا تحاول العائلة تسخير خبراتها العلمية فى التحايل على النظام من خلال طرح أكثر من حل إما الهجرة أو تزويج ابنتهم من ضابط أمن دولة أو قاض أو تحويل ابنهم غير الموهوب إلى نجم كرة شهير، مزج السيناريو بين الواقع والفانتازيا على غرار فيلم محمد أمين السابق «ليلة سقوط بغداد»، لكن المزج هنا لم يكن بنفس البراعة، وجاء الحوار مباشرا ومسرحيا فى الكثير من المشاهد، وينقص الفيلم إبداع فى الصورة ولغة بصرية توازى قوة الموضوع، فالصورة دائما أقوى من أى كلام، ومايحدث فى مصر الآن يتخطى خيال أكثر كتاب السيناريو براعة.