حكاية "الجامع الحرام" الذي رفض المصريون الصلاة فيه
الناظر إلى باب زويلة سيجد أن مئذنتان رشيقتان غامضتان دونما مسجد تعلوان باب القاهرة الأشهر، وعلى الرغم من أن الباب هو بناء حربي وملئ بالوسائل الدفاعية إلا أن المئذنتين التي تعلوانه مميزة إياه بعنصر معماري فريد بين أبواب القاهرة الأخرى.
المئذنتان لا تخصان الباب فهما تعودان للعصر المملوكي الجركسي، بعد تاريخ إنشاء باب زويلة بكثير، بل هما تخصان الجامع الموجود على يمين الخارج من باب زويلة، وهو جامع "المؤيد شيخ"، والمشهور في التاريخ بـ "الجامع الحرام".
علي مدار آلاف السنين شهد تاريخ مصر فترات متفاوتة من الصعود والهبوط، حكم مصر المماليك الذين تركوا عمائر ضخمة وفنون راقية، ومن بين أشهر المماليك الذين أثاروا الجدل "المؤيد شيخ المحمودي"، أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ المصري.
وحسب ما نقل لنا ابن إياس في كتابه بدائع الزهور، فإن المؤيد شيخ المحمودي ولد في وسط آسيا، واختطف من أهله الجراكسة، وبيع بسوق الرقيق، حتي استقر به المقام في مصر، وتعلم الفروسية، وفنون القتال، وكان له صفتين أساسيتين، هما الشجاعة والتهور، حتى وصفه أقرانه بالشيخ المجنون.
تدرج المؤيد شيخ في المناصب، فتمت ترقيته في دولة الظاهر برقوق إلى خاصكي "أي من خاصة السلطان يدخل عليه بالسيف"، ثم ساقياً للسلطان، إلى أن أنعم عليه بإمرة عشرة أمراء، ومع وقوع الفتنة بين الأمراء الظاهرية، وبين ابن أستاذهم السلطان الناصر فرج بن برقوق، قدم المؤيد شيخ إلى مصر، وبعد القبض على الناصر فرج بن برقوق وقتله، ساعدته الأقدار وحسن تدبيره على أن يعتلي كرسي السلطنة سنة 815هـ.
حكاية الجامع الحرام
وقعت حادثة للمؤيد شيخ كان لها كبير الأثر في حياته، حيث أن السلطان برقوق غضب عليه إثر وشاية من منافسي المؤيد شيخ، فأمر برقوق باعتقاله وإيداعه في " خزانة شمائل" سجن القاهرة الرهيب، وهو واحدًا أبشع السجون في ذلك العصر، وفي شدته تضرع إلى الله تعالى، إن أنجاه من هذه الشدة أن يبني مكان السجن مسجدًا يُذكر فيه اسم الله.
تسلطن المؤيد شيخ المحمودي، وأوفى بنذره، فهدم "خزانة شمائل"، ثم شرع مباشرة في بناء مسجده الشهير بمنطقة تحت الربع بباب زويلة حاليًا، وعن بناء الجامع يقول ابن إياس: "فلما بنى السلطان هذا الجامع حصل للناس بسببه غاية الضرر".
جملة غريبة ومشهدًا فريدًا ينقله لنا ابن إياس، كيف يحدث للناس من بناء المسجد ضررًا، ولكن يبدو أن أسلوب العسف الذي كان يتبعه المماليك في كثير من الأحيان بحكمهم تسرب إلى أعمال الخير.
المسجد حسب تصميمه وحسب المطلوب كان يحتاج إلى كمية كبيرة من الرخام، فأمر والى القاهرة بمهاجمة بيوت الناس وبخلع منها الرخام غصبًا، وهنا نترك المجال لابن إياس مرة أخرى حيث يقول:
"وصار المؤيد يكبس الحارات التى بها بيوت المباشرين، وأعيان الناس بسبب الرخام، وكان التاج والى القاهرة يهجم على الناس فى بيوتهم، ومعه المرخمون "عمال الرخام"، فيقلع رخام الناس طوعاً أو كرهاً، وأخرب دوراً كثيرة، وباب السلطان حسن الذى خلعه، جعله على باب جامعه، وأخذ التنور الكبير النحاس "النجفة" منها أيضاً، ودفع فى الباب والتنور خمسمائة دينار.
والأكثر من هذا أن المباشرين كانوا يجبرون الناس على العمل في بناء الجامع، حتى أطلق المصريون على الجامع لقب الجامع الحرام رفضًا منهم لهذا العسف وهذه الممارسات، فإن تم القبض على أحدهم وهو يردد أنه بعمل في الجامع الحرام قال أنه يمتدح المسجد ويشبهه بالجامع الحرام في مكة، وتم بناء المسجد بعد أربع سنوات من العمل، عانى فيها أهل القاهرة الويلات، وفي النهاية رفض الناس الصلاة فيه.
المثير للدهشة أن المؤيد شيخ جمع صفات متناقضة تارة هو مقرب من الشعب لا يسكن قلعة الجبل ويكتفي بالتواجد في بيته ببولاق، وتارة أخرى هو متسلط عنيف يصادر أملاك الناس بلا سبب أو ذنب، ولم يتوقف الجنون عند هذا الحد، فكان للمؤيد ابن شاب يدعي إبراهيم ويلقب بالصارمي كناية عن فروسيته، وكان محبوبًا بين العامة بعثه أبوه لإخماد إحدى ثورات الشام فأخمدها وعاد لمصر منتصرا واستقبله المصريين استقبال الفاتحين وتزايدت شعبيته بين المواطنين.
وهنا يتدخل دودار الدولة - كاتم أسرار السلطان- ويوغر صدر الأب علي ابنه، فدس له السم، ومات إبراهيم وحزن عليه الشعب ونعاه الخطيب قائلا : "إن القلب ليحزن وان العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"
وحل الندم بالمؤيد وأدرك أن طمعه في السلطة جعله يقتل ابنه، فأصابه الشلل وعاش في عذاب سبعة أشهر حتي مات ودفن جوار ابنه إبراهيم في المسجد الذي بناه ليكون الأب والابن، القاتل والقتيل في ضريح واحد، إلى جوار بعضهما حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
نبذة عن عمارة المسجد
وأبرز مكونات المسجد المعمارية حسب ما قال الدكتور مصطفى نجيب أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة في كتابه عن جامع المؤيد شيخ أن الدركاه التالية للباب الرئيسي قائمة على عقود مروحية تعتبر هى النموذج الوحيد في العمارة الإسلامية بالقاهرة.
والمدخل المؤدي إلى داخل المسجد مدخل منكسر وهو ما يميز المدارس الإسلامية، على عكس المساجد التى تتميز بعدة مداخل مباشرة تؤدي إلى الشارع مباشرة.
وقد انتهز مهندس المسجد فرصة وجود باب زويلة ملاصقاً للمسجد فاتخذ من جانبيه قاعدتين لمئذنتين، وهما رشيقتان لكل منهما ثلاث دورات أو طوابق حليت بالكتابات والنقوش، يتكون الطابق الأول من شكل مثمن يقوم على قاعدة مربعة وزخرفت أضلاع المثمن بحنيات مستطيلة، والطابق الثاني مكون من مثمن زخرفت أضلاعه بخطوط متعرجة، أما الطابق الثالث فيتكون من جوسق ذي ثماني أعمدة رشيقة تحمل شرفة مثمنة ترتكز على دلايات، ويعلو الطابق الثالث خوذة على شكل كمثري يعلوها هلال نحاسي، وتم العمل بالمأذنة الشرقية في رجب 822هـ، فيما تم العمل بالمأذنة الغربية في المسجد ككل في شعبان عام 823 هـ.