عادل حمودة يكتب: الوصفة السحرية لخفض البطالة والواردات وزيادة الصادرات والعملات الصعبة

مقالات الرأي



خطة إنقاذ الصناعة من دمار بلدوزر صندوق النقد الدولى "2"

قواعد السوق الحرة ليست مقدسة وأول من كسرها الولايات المتحدة الأميركية

هل الوزاراء فى بلادنا لا يقرأون.. أم أن الأبحاث صعبة عليهم؟


فى الموالد يقف رجل موهوب فى الثرثرة بين البسطاء لإقناعهم بدواء سحرى يشفى من الصداع والزكام ووجع الظهر واضطراب المعدة وضعف النظر وتشنج العضلات.

لا تختلف روشتة الإصلاح الاقتصادى التى يكتبها صندوق النقد الدولى عمَّا يبيعه ذلك الرجل فهى تعالج عجز الموازنة وتخفض التضخم والديون والبطالة وتزيد من ميزان المدفوعات وتجذب الاستثمارات وترفع القدرات الإنتاجية وتحقق الرخاء.

ولا تفرق هذه الروشتة بين الهند والمكسيك واليونان ومصر رغم اختلاف الظروف السياسية والمتاعب الاقتصادية بين الدول بعضها البعض.

الأجسام مختلفة والباترون واحد.

قبل نحو شهرين وبالتحديد فى يومى 5 و 6 مايو الماضى عقد معهد التخطيط فى القاهرة مؤتمرا دوليا حول «التصنيع والتنمية المستدامة» تعجبت من تجاهل وزراء الاستثمار والمالية والصناعة لأبحاثه، رغم أهميتها فى علاج المتاعب الاقتصادية التى نمر بها ونحن نتناول الدواء المر الذى فرضه علينا الصندوق.

هل السبب أن الوزراء فى بلادنا لا يقرأون؟ أم أن الأبحاث صعبة على فهمهم؟ أم أنهم يشعرون بتفوقهم على العلم ولا يحتاجون إليه فمن يده فى النار ليس كمن يده فى الماء؟.

وربما تقرأ الحكومة الجديدة من الأبحاث ــ سنعرضها ببساطة ــ ما يساهم فى إضافة علاج مكمل لروشتة الصندوق تحقق لبرنامج الإصلاح الاقتصادى ما نرجوه منه.

سأبدأ ببحث قدمه الدكتور محمد يوسف أستاذ الاقتصاد المساعد وعضو الهيئة العلمية فى معهد الإدارة بالسعودية عن أثر برنامج الصندوق على تحفيز الاستثمار الصناعى.

لا شك أن الصناعة تحقق قيمة مضافة عالية بزيادة الصادرات وتقليل الواردات مما يرفع معدل النمو ويجبر التضخم وعجز الموازنة وضعف الميزان التجارى على التراجع فهل تشفى الصناعة بروشتة الصندوق أم يزداد مرضها بسبب شدة الآثار الجانبية للدواء؟ أم تحتاج إلى جرعات مقاومة من الفيتامينات.

«إن توصيات الصندوق ليست كفيلة وحدها بإنجاز الأهداف وعلى الدول منخفضة الدخل رسم سياسة كلية تساعدها على جذب مزيد من الاستثمار الأجنبى فى القطاعات التنموية وعلى رأسها الصناعة «.

لقد جربت مصر روشتة الصندوق عام 1991 وكررتها عام 2016 فارضة على الحكومة التخلى عن أصولها الإنتاجية بالخصخصة وتحرير سعر الصرف وخفض الجنيه ورفع الدعم عن السلع والخدمات وزيادة الإيرادات الضريبة غير المباشرة.

حسب دراسة للدكتور محمد عمران فإن روشتة البرنامج الأول (1991) لم تنجح فى خلق معدلات مرتفعة ومستدامة للنمو الاقتصادى ولا فى تخفيض معدلات البطالة ولا فى تحسين مستوى المعيشة ولا فى تحفيز الاستثمار الصناعى وهو الأهم لعلاج الخلل بين واردات تجرى بسرعة الأرنب وصادرات تمشى بسرعة السلحفاة.

نفذت مصر الروشتة بدقة فحررت سعر الصرف وزادات من الاحتياطيات الدولية واتجهت نحو الخصخصة وخفضت نفقات الدعم على الطاقة ولكنها لم تحقق تغيرا فى الإنتاج الصناعى بل على العكس رفعت من تكلفة القروض الصناعية بسبب رفع سعر الفائدة ورفعت من تكلفة الإنتاج بسبب تحرير سعر الصرف الذى رفع ثمن استيراد المواد الخام اللازمة لكثير من الصناعات (مثل السيارات والدواء والملابس) التى يرتفع فيها نسبة المكون الأجنبى بنسبة تزيد أحيانا على 90% فأغلب الصناعات فى مصر تجميعية.

ولو كانت الروشتة قد أدت إلى زيادة الاستثمارات ــ بقفزات محدودة ــ فإنها اتجهت إلى قطاعات غير صناعية فخلال العشر سنوات التالية لتنفيذ الروشتة لم تتجاوز اسثمارات الصناعة للمصريين والأجانب حاجز الخمسة مليارات دولار فى العام وهو رقم هزيل لم يعوض التأثير السلبى للمصانع التى أغلقت بعد أن ارتفعت أسعار منتجاتها بسبب زيادة فوائد ديونها البنكية وزيادة فاتورة استيراد موادها الخام.

وكانت النتيجة تراجع نسبة المشتغلين فى الصناعة من 25% إلى 20% كما أن الصناعة لم تحقق سوى قيمة مضافة طفيفة فى الاقتصاد الوطنى لا تزيد عن 30% فى البداية وهى نسبة أخذت فى الانخفاض تدريجيا حتى وصلت إلى 2.6% عام 2012.

وبصورة عامة لم تكن الروشتة التى طبقت عام 1991 ذات أثر إيجابى على تقوية العمود الفقرى للصناعة، لأنها لم تساعدها على تحفيز الاستثمار المحلى ولم تجعلها جاذبة للاستثمار الأجنبى ولم تعينها على التوسع فى التشغيل والإنتاج والتصدير وبالكاد وعلى امتداد ربع قرن حافظت الصناعة على ما كانت عليه عند بدء تنفيذ الروشتة.

لم تخلق الروشتة مناخا اقتصاديا مناسبا لتعبئة المدخرات ويوجهها ناحية الاستثمارات الإنتاجية ــ المصرية والأجنبية ــ خاصة الاستثمارات الصناعية عالية القيمة المضافة وبالكاد وجهت المدخرات ناحية المضاربات العقارية والمشروعات الريعية (المقاهى والنوادى مثلا).

ولضعف المناخ المحفز للإدخار والاستثمار لم يستطع القطاع الصناعى استيعاب وتشغيل الداخلين الجدد فى سوق العمل أو حتى المحافظة على المعدل السابق على بدء الروشتة بسبب تسريح شطر لا بأس به من العمالة بعد خصخصة المصانع والشركات التى كانت تعمل فيها.

ولم تزد الروشتة من الطاقة التصديرية ولم تقلل من الميل المتناهى للاستيراد فتحرير سعر الصرف المفروض أن يزيد من منافسة التصدير لخفض ثمن السلع المنتجة محليا لم يراع حالة مرونة التجارة الخارجية قياسا لحالة مرونة التجارة المصرية (مهما انخفض سعر سلعة مصرية فإن الصين تنتجها بواحد على عشرة من ثمنها).

ولم تساعد الروشتة فى خلق سياسة تمويلية وإنتاجية داعمة للاستثمار فى القطاعات التى تنتج بدائل الواردات بسبب فساد البيروقراطية الحكومية فى الضغوط على أصحاب المصانع بوسائل فاسدة تصلح لحد التهديد والابتزاز.

وإجمالا فإن روشتة الصندوق بشروطها المالية الصعبة التى تعمم دوليا غير موجهة بالأساس ناحية الصناعة فمكوناتها هدفها الوحيد إزالة العقبات الحكومية التى تحول دون التحول الكامل لنظام السوق الحرة، فى وقت توقف فيه دولة مثل الولايات المتحدة العمل بآليات هذه السوق فى وقت الأزمات الاقتصادية كما حدث فى عام 2008 حين تدخلت الحكومة متحكمة وموجهة للاقتصاد ونجدها الآن ترفض اتفاقيات التجارة الدولية وتضع برامج حماية لمنع السلع المستوردة من تدمير صناعتها الوطنية فقواعد السوق الحرة ليست مقدسة حتى تصاب الدول التى تخرج عنها باللعنة وتفقد الجنة.

وكثيرا ما تلجأ إليها الدول النامية ــ ومنها مصر ــ لأسباب أيديولوجية منها الاعتقاد بفشل التخطيط الاقتصادى فى تخصيص الموارد والاعتقاد بكفاءة آليات السوق الحرة دون غيرها ولكن العيب ليس فى السياسات وإنما فى تطبيقها.

مرت 25 سنة على الروشتة الأولى التى نفذها الدكتور عاطف صدقى وهو خبير فى المالية العامة نجح فى تنفيذ شروط الصندوق باقتدار لا نتصور وصول المهندس شريف إسماعيل (المتخصص فى البترول) والمهندس مصطفى مدبولى (المتخصص فى الإسكان) إلى المستوى نفسه من التنفيذ، ورغم ذلك لم يسهم الدواء المر فى علاج متاعب الصناعة بل زاد منها.

ويلفت النظر أنه رغم مرور نصف قرن على تلك الروشتة الأولى تضاعف فيه السكان وتضخم الجهاز البيروقراطى وزادت متاعب الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتعرضت الدولة لمحاولات تفكيكها ــ فإن الروشتة لم تتغير فهل يمكن بالفعل أن تصلح لكل زمان ومكان؟

لو كانت الروشتة كما هى والمتاعب التى عليها علاجها تضاعفت فهل نتوقع نتائج مختلفة عند تطبيقها على الصناعة من جديد قبل عامين؟.

وتتوقع الدراسة التى بين أيدينا أن تنخفض قدرة الاقتصاد على تعبئة المدخرات المحلية بسبب زيادة معدل التضخم عن سعر الفائدة بجانب غياب أوعية ادخارية ملائمة لظروف المدخر المصرى وتتوقع الدراسة تراجع القدرة على جذب الاستثمار الأجنبى المباشر بفعل تحرير سعر الصرف الذى رفع من المخاطر متوسطة وطويلة الأجل فى سوق الصرف الأجنبى.

وتتوقع الدراسة محدودية الآثار على خلق الصناعة لوظائف جديدة أو زيادة إنتاجيتها ولو استكملت سياسة الخصخصة المصانع المملوكة لقطاع الأعمال ــ سواء بالبيع الكلى أو الجزئى فإن من المتوقع أن تقل قدرة الصناعة على التوظيف.

وتتوقع الدراسة أن التحرير الكامل للتجارة الخارجية من القيود الاستيرادية وتحرير سعر الصرف من القيود التنظيمية ــ فى ظل الوضع الراهن للإنتاجية الصناعية الكلية للصادرات المصرية وفى ظل الميل المتنامى للاستيراد ــ سيساهم فى تعميق العجز فى الميزان الصناعى فى الأجل المتوسط ذلك لأن المنافسة السعرية التى تحسنت بتخفيض الجنيه لن تعوض النقص المتوقع لزيادة تكاليف الإنتاج المصاحب لنفس التخفيض، فالمكون الأجنبى المرتفع فى الصناعة سيلغى الأثر السعرى الإيجابى لتخفيض الجنيه.

وهنا يجب على الحكومة الحالية أن تقرأ هذه الدراسة وتستوعبها ولو اعترفت بنتائجها فإن عليها وضع برنامج مكمل لتلافى الآثار السلبية للروشتة على الصناعة.

ولو لم تجد الحكومة وقتا لديها للقراءة أو تجد صعوبة فى فهم الدراسة فإن الباحث اقترح برنامجًا مكملا لتعزيز قدرة الصناعة التى هى الحل السحرى للتشغيل وتخفيض الأسعار ورفع قيمة الجنيه وتخفيف الضغط على العملات الصعبة بسبب جنون الاستيراد بما لا نحتاج فى كثير من الأحيان.

فى الأجل القصير : خلق آليات مصرفية متحيزة فى تكلفتها لصالح الصناعة سواء فى المشروعات الكبيرة أو الصغيرة أو المتوسطة بسعر فائدة يشجع على الاستثمار فيها.

وبالنسبة للاستثمار الصناعى الأجنبى المباشر الناقل للتكنولوجيا لابد من إعفاء ضريبى كامل له.

ولابد من تطوير سياسات دعم الصادرات الصناعية لكى تقدر على المنافسة فى الخارج مع ربط قيمة الدعم مع تحسن الأنشطة الصناعية المدعومة من زيادة وجودة الناتج المحلى ويمكن توفير مصدر كاف وملائم لصندوق دعم الصادرات من حصيلة الضرائب التصاعدية على الدخول والأرباح الرأسمالية التى هناك حتمية لها.

وفى الأجل المتوسط والبعيد لابد للسياسات الاقتصادية أن تركز جهودها على تعبئة المدخرات الوطنية وإتاحتها للصناعة.

وخلق آليات إدارية متطورة تربط الأجر بالإنتاج فى قطاع الأعمال وخلق آليات مالية تربط بين نمو الإنتاج ونمو الناتج المكون المحلى وبين المعدلات الضريبية فى القطاع الخاص الصناعى.

ويعتبر تعميق الروابط بين الصناعة والجامعة ومراكز الأبحاث من أهم السياسات الاقتصادية الضرورية لتطوير الإنتاجية فى الصناعة الوطنية.

وبسبب العقبات المتعددة التى تحول دون التحول للتصنيع المصرى المستدام لا بديل عن رسم استراتيجية وطنية للمحاكاة التكنولوجية والإحلال محل الواردات الرأسمالية والوسيطة على أن تأخذ هذه الاستراتيجية فى اعتبارها الإمكانات الحقيقية لرأس المال المعرفى فى مصر وتراعى فى الوقت نفسه القواعد والضوابط الدولية فى نقل المعارف والتكنولوجيا فى إطار الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية.

شكرا دكتور هالة السعيد التى عقد المؤتمر تحت إشرافها ورعايتها.

وشكرا دكتور محمد يوسف على بحثك الذى قدم حلولا لإنقاذ الصناعة فى مصر من الآثار السلبية التى فرضها عليها برنامج الإصلاح الاقتصادى.

وليس على الوزراء المسئولين عن ملف الصناعة سوى القراءة.