الحضارة الإسلامية.. ماض مشرق ومستقبل واعد
إن كان لأمة من الأمم أن تتباهى بما أحرزته في الميدان الحضاري فلأمة الإسلام الحظ الوافر، والنصيب الأوفر. فلم يكن عيبا يوما أن نفاخر بما حققناه في هذا الميدان الرحب؛ فلقد خط المسلمون الأوائل بأقلامهم حضارة نيرة بفضل ما خلفوه من كنوز معرفية وثقافية انتقلت روافدها للغرب والشرق، وأضاءت الطريق، وشقت طريقها للتقدم والرقي للعالم أجمع، فكانت ضياء يستضاء به، وقبسا يقتبس منه.
خط علماؤنا الأماجد بجهودهم واكتشافاتهم وإسهاماتهم في صفحات الحضارة ما يعود بالنفع على البشرية جمعاء، وكان لهم فضل السبق فيما وصلوا إليه.. ولم لا؟ وقد حملوا مشاعل نور تضيء الطريق للبشر عامة على اختلاف مشاربهم ومآربهم وراحوا ينثرون الخير على البسيطة كلها.
ومع خفوت ضوء التقدم للمسلمين، الآن، وارتفاع نبرات اليأس والتشاؤم، تجدر الإشارة إلى ما كان عليه الأسلاف الأوائل من تقدم ورقي؛ كي يتجدد الأمل، وتعلو الهمم، ويحدونا الشوق بوصل هذا الماضي العريق بمستقبلنا الزاهر، فنعيد صياغة حاضرنا بما يحقق لنا السعادة في عاجل أمرنا وآجله.
يحلو للبعض أن يقارن بين ما توصل إليه الغرب والمسلمون في فترة ما، وهذه ظاهرة تبدو صحية، لا نختلف معها، إلا أن ما يثير الدهشة والعجب حقا هو وصم هذا البعض المسلمين بالتخلف والرجعية، متذرعين بأسباب واهية، وكلمات منثورة.. ولندع التاريخ يقص بنفسه ما كان، فهو الحكم الفصل، والكلمة الباقية، والشاهد الذي لا يتجمل.
ماض عريق:
لقد كانت الأندلس، عندما فتحها العرب، في أوائل القرن الثامن، خاضعة للقوط المغتصبين الظالمين، ولا تختلف عن بقية بلاد غرب أوروبا المعاصرة؛ من حيث انتشار الجهل والتأخر والفوضى، بسبب النزاع الاجتماعي، والفتن الداخلية، ومن أكبر مظاهر التفكك والانقسام: أن جوليان، أحد كبار الأمراء، اشترك مع رئيس أساقفة إشبيلية في مساعدة المسلمين على فتح الأندلس.
ويذكر جوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب»: أن المسلمين ما كادوا يتمون فتح الأندلس، حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يبعثوا فيها الحياة، فعمروا الأراضي والمدن، وأقاموا المباني الفاخرة، ووطدوا صلات تجارية وثيقة مع الأمم الأخرى، وشرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان والرومان، وينشئون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوروبا زمنا طويلا، ومن ثم أصبحت «طليطلة»، بعد أن استولى عليها ألفونسو السادس سنة 1085م، مركز انتشار الثقافة العربية إلى باقي نواحي الأندلس وأوروبا.
ويقارن «لوبون» بين الأندلس العربية وسائر أرجاء أوروبا، فيقول: «لقد تمتعت الأندلس بحضارة سامية بفضل العرب، بينما كانت بقية أوروبا غارقة في ظلام وتأخر، ولو سار الغرب تحت راية العرب لتسامت منزلته، ولو رقت أخلاق أهله ما وقعوا في الحروب الدينية».
ففي الوقت الذي غط فيه الغرب في الخرافات والأوهام في العصور الوسطى، انشغل المسلمون بالحديث عن كروية الأرض ودورانها، والأجرام السماوية وحركاتها، حتى برع العشرات من علماء المسلمين النابغين الذين كانوا، ولا يزالون، يحتفظون بمكانتهم العلمية ليس عند المسلمين وحدهم، بل وعند الغربيين أيضا.
ويشبه المفكر «راندل» العرب، في العصور الوسطى، بالألمان في العصر الحديث، فيقول: «كان العرب في القرون الوسطى، يمثلون التفكير العلمي، والحياة الصناعية العملية، اللذين تمثلهما اليوم ألمانيا الحديثة، وخلافا لليونان لم يحتقر العرب المختبرات العلمية، والتجارب المصورة، .. فقد حفظ عرب الأندلس، في القرن العاشر الميلادي، العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان، حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الحين بلاد يمكن الدرس فيها، غير الأندلس العربية، وإليها كان يقصد الأوربيون المتعطشون، وكان منهم «جربرت»، الذي أصبح بابا للمسيحيين في سنة 999م».
وفي التاريخ، تصدر ابن خلدون، وكانت مقدمته المَعين الذي لا ينضب، حتى استمد منها «أوجست كونت»، العالم الفرنسي، الكثير من آرائه، ولم يكن ابن خلدون وحده، بل زامله غيره من أمثال ابن حيان، والقرطبي، وابن الأثير، والطبري، وغيرهم الكثير.
وفى الكيمياء يقول «جوستاف لوبون» في كتابه «حضارة العرب»: المسلمون وحدهم هم الذين اخترعوا ملح البارود كمادة متفجرة قابلة لإطلاق القذائف، وعنهم أخذته إنجلترا، ثم بقية أوروبا، ولقد كان المسلمون هم أول من حاول كشف الإكسير الذي يحول المادة والمعادن إلى ذهب، كما استفادوا من ذلك في التجميد، والتحليل، واكتشاف النشويات، والمواد السكرية»، ومن علماء المسلمين في الكيمياء، جابر بن حيان، كما أنه برع في الفلك، والهندسة، وعلم المعادن، والفلسفة، والطب، والصيدلة.
ولقد حفلت جهود المسلمين في الطب بالكثير، فمن ينكر سبق أبى القاسم الزهراوي، صاحب كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف»، وهو أول كتاب في الجراحة، وقد ذكر فيه مؤلفه كيفية تفتيت الحصى في المثانة، وكيفية تشريح الأجسام الحية والميتة، وإجراء عمليات العيون والأسنان والولادة، وغيرها مما يعمل بأصولها اليوم؟
فلم يقف المسلمون في القرن الثامن الهجري مكتوفي الأيدي، كما وقف الغربيون، مثلا، أمام انتشار الطاعون، الذي هب له الطبيب الغرناطي ابن الخطيب المسلم ليؤكد نظرية العدوى، ويبرهن عليها، من خلال كتابه «حقيقة السائل عن المرض الهائل».
كذلك يعد أبو بكر الرازي أول من وصف الجدري والحصبة، وأول من قال بالعدوى الوراثية، وأول من استخدم الماء البارد في علاج الحميات، كما يعد ابن سينا أول من تكلم عن السكتة الدماغية، الناتجة عن كثرة تدفق الدم، وهو من وصف أعراض حصى المثانة، وبين أثر المعالجة النفسية في الشفاء، ولقد كان كتابه «القانون في الطب» بمثابة المرجع الطبي لفترة طويلة، وهو أيضا مَعين العرب والإفرنج الطبي لفترة ناهزت ثمانية قرون.
وفي الفيزياء لمعت أسماء المسلمين القدامى كابن الهيثم وغيره؛ فهو أول من وضع أسماء لأجزاء العين؛ ومازالت تعرف بها إلى الآن، كالشبكية والقرنية والسائل الزجاجي والسائل المائي، وغيرها، ولقد تكلم عن العدسات وقوى تكبيرها بالأدلة والتجارب، ولعل كتابه «المناظر»، والذي يقع في سبعة مجلدات، هو أقدم الكتب في علم البصريات، ومن جهود المسلمين في هذا المجال: اختراعهم الإبرة المغناطيسية (البوصلة)، التي توضح الاتجاهات، واختراعهم «الموار»، الذي يحسب الفترات الزمنية أثناء رصد النجوم، وسبقوا أيضا بمعرفة قوى الجاذبية، وأن الضوء أسرع من الصوت، كذلك عرفوا آلات الظل والمرايا.. ولقد حار «شارلمان»، من هدية «هارون الرشيد» له، حينما أهداه الساعة الدقاقة، ولم يستطيعوا فهمها، لفترة ولا طريقة تركيبها.
ولم تقف جهود المسلمين عند هذا فحسب، بل تخطته، فمن علماء المسلمين القدامى من نبغ في أكثر من مجال، كل يشار إليه فيه بالبنان، كابن الهيثم الذي نبغ في الطب والفيزياء والرياضيات والفلك، وأيضا ابن سينا، والخوارزمي، وابن البناء.. وغيرهم.
ولقد حل المسلمون مشكلة أوروبا في علم الرياضيات بوضعهم «الصفر»، والكسور العشرية، وحلهم المعادلات المكعبة. ولنا أن نفاخر بأن أول رسالة في الرياضيات في أوروبا عام 1483م، كانت مأخوذة من العالم المسلم «البتاني» وأن مصادر أوروبا الرياضية إلى الآن هي ترجمات لكتب المسلمين الأوائل.
إن ما ذكرته عن وجود المسلمين، وتمكنهم حضاريا، غيض من فيض، وقليل من كثير.. فأي موسوعة تسع، وأي كتاب يتسع؟.. لكننا، والحالة هذه، نجدد الثقة في جهود علمائنا، الذين تبوؤا المكان والمكانة، وكلنا أمل أن نأخذ من ماضينا المشرق، ما يسهم في إعادة بناء حاضرنا، فلنجدد الثقة، وليعل الفخر، ولتعد أمجادنا تعانق السماء؛ لننعم جميعا بمستقبل زاهر واعد، خطته أيادي المسلمين المتوضئة، وعقولهم الذكية.