عادل حمودة يكتب: الصناعة.. التعويذة السحرية للنجاة من الأزمات الاقتصادية
وزير قطاع الأعمال يبدأ عمله بلقاء وزير الصناعة فى خطوة جيدة للتنسيق بين الوزارات
ما يحدث فى مصر الآن هو تجريف للصناعة الوطنية وتركنا نهبًا للمستورد
الصناعات الصغيرة هى بداية إنقاذ الصناعة بشرط رعايتها جيدًا
جلست ذات مرة أمام رئيس حكومة فى مكتبه.. وجدت القلم الذى يكتب به صناعة ألمانية.. والورق الذى يكتب عليه صناعة هندية.. والستائر المعلقة على النوافذ صناعة إسبانية.. ومكاتب السكرتارية صناعة صينية.. ولكن.. الشهادة لله.. كانت اللغة التى نتحدث بها صناعة مصرية. مأساة أن نستورد ما كنا نصنعه.. السيارات.. الأحذية.. البطاطين.. الأثاث.. المفروشات.. المناشف.. الفاكهة.. البسكويت.. أوانى الطهى.. قماش تصنيع الملابس.. وبالونات الأطفال.. والطراطير التى يضعها الصغار والكبار فى احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة. وبسبب ضعف العملة الوطنية وجشع التجار وغياب الرقابة الحكومية انفجرت أسعار السلع المستوردة، بما يصعب تصديقه وبما يصعب احتماله. لن تصدق لو قلت إن بالونة للأطفال تعبأ بالغاز يصل سعرها إلى 250 جنيها ومروحة للسقف من الخشب تتجاوز ستة آلاف جنيه وممسحة رديئة فى الحمام بألف جنيه وطقم فناجين قهوة بثلاثة آلاف جنيه وما رفع ضغط الدم فى عروقى وجود عصير ليمون بالنعناع مستورد من لبنان بعشرين جنيهاً. ولرغبة أصحاب السوبر ماركت فى مزيد من المكسب فإنهم يقاطعون البديل المصرى أو يخفونه لصالح السلع المستوردة ليكون السؤال: لم سمحنا باستيرادها أصلا؟ لم نستورد سلعا أجنبية تساهم فى القضاء على البديل المصرى الذى لا يقل عنها جودة؟. إن الولايات المتحدة الآن لا تتردد فى حماية صناعتها ولا تلقى بالا باتفاقيات التجارة الدولية التى نعمل لها نحن ألف حساب وكأنها نصوص مقدسة من السماء. ولأن التهاب الأسعار مرض ينتشر بالعدوى فإن الفوضى عمت الأسواق وأصبح باعة الجرجير يحددون سعره حسب بورصة الدولار. أما الصناعات التى نفتخر بها مثل صناعة الدواء والملابس والحديد فغالبية مكوناتها مستوردة من الخارج ولا تزيد فى النهاية عن كونها صناعة تجميعية ترتفع تكاليفها بارتفاع سعر الدولار وتتأثر مباشرة بخفض قيمة الجنيه وزيادة أسعار الكهرباء والمياه والنقل تنفيذا لسياسة رفع الدعم، مما أدى إلى تراكم ديونها لدى البنوك وهدد بخرابها. وبينما لم نجد وزيرا للصناعة ــ منذ يناير 2011 ــ يمتلك موهبة التعامل مع الأزمات والخروج منها فإن رئيس اتحاد الصناعات هرب من مسئوليته بدخول مجلس النواب لعله يحقق حلمه بتولى رئاسة الحكومة ولو لساعة واحدة. واتحاد الصناعات هو المسئول عن علاج متاعب الصناعة بالتفاوض مع الحكومة للحصول على شروط أفضل لبناء المصانع الجديدة (مثل توفير الأرض ومرافقها بسعر مشجع ) أو التفاوض مع البنوك لتخفيف فوائد الدين المتراكمة على المصانع المعطلة والتى لا نجد رقما دقيقا لعددها أو لحجم مديونيتها أو لعدد عمالها والأهم لا نجد بصيصا من الأمل للخروج من أزمتها وكل ما تنتظره أن تباع ماكيناتها خردة لسداد ديونها. ولسنا فى حاجة للحديث عن أهمية الصناعة ودورها فى تقليل الاستيراد بما يخفف الضغط على العملات الصعبة ودورها فى التصدير بما يأتى بمزيد من العملات الصعبة. إن حجم الدين الذى كان على كوريا الجنوبية لم يزد كثيرا عن حجم الدين الذى كان على البرازيل لكن كوريا الجنوبية نجحت بسياسة تصديرية مدعمة وفعالة فى النجاة من الإفلاس الذى أصاب البرازيل. ونحن بلا جدال فى حاجة لتلك العملات لسداد فوائد القروض الخارجية ولشراء السلع الغذائية مثل القمح والزيوت والشاى والتى أضيف إليها الأرز والسكر بعد أن أجبرتنا مشكلة نقص المياه على استيرادهما من الخارج. ولكن سيصعب على الصناعة الخروج من مأزقها طالما أن أرباحها فى أفضل الأحوال ــ وبكل ما تحتمل من تكلفة ومخاطر ــ لا تزيد فى أفضل الأحوال عن 15 فى المائة بينما التجارة ــ التى لا تعانى من المخاطر بل وتستفيد من الأزمات والتضخم المتصاعد ــ تحقق ربحا مضاعفا يجعلها تفضل الاستيراد عن الإنتاج المحلي. وهناك بالتأكيد ما يمكن وصفه بتجريف الصناعة نتيجة تفشى ثقافة اللجوء إلى المشروعات الريعية مثل شراء الأراضى والعقارات التى تشجع الحكومة عليها بطرح مساحات يصعب حصرها من أراضى البناء كما أنها تجاوزت حدود البناء لمحدودى الدخل لمنافسة الشركات العقارية فى بناء المساكن للدخول المرتفعة مثل ناطحات سحاب مدينة العلمين الجديدة التى وصل سعر المتر فيها إلى 30 ألف جنيه. وتنتشر فى مصر الكافيهات التى لا تحقق قيمة مضافة مفيدة للاقتصاد القومى بل تستنزف مليارات الجنيهات سنويا يدفعها روادها لتدمير صحتهم بتدخين الشيشة طوال ساعات جلسوهم فيها. ولا شك أن المشروعات القومية العملاقة نجحت فى وضع بنية تحتية سليمة تمهد لمشروعات استثمارية وصناعية تعوض بعائدها ما أنفق على هذه المشروعات، كما أنها خلقت فرص عمل تقدر بالملايين كسبت المليارات ولكنها فى الوقت نفسه زادت من الطلب على السلع فى الأسواق فرفعت أسعارها وهو ما يوجب التوازن بين المشروعات القومية (طرق وكبارى وأنفاق) والمشروعات الإنتاجية. وأمام أنفاق المليارات على خدمات المحمول والإنترنت كان يجب على وزارة الاتصالات الاستفادة من تلك التكنولوجيا فى خلق صناعات موائمة تختصر كثيرًا من مسافات التخلف كما فعلت الهند مثلا. ولضعف عائد الصناعة يتحول أصحاب رؤوس الأموال إلى التجارة ومعارض السيارات أو التوكيلات السلعية أو شهادات الادخار البنكية التى تحقق فائدة سنوية تزيد كثيرا عن أرباح الصناعة والأهم أنها لا تعانى من مخاطرها ولا من ابتزاز كثير من الهيئات البيروقراطية لها. ولا شك أن الفساد يرفع من تكاليف الصناعة فى مصر بما يعادل أربعين فى المائة أحيانا وهو ما يجعل من الصعب عليها منافسة البديل المستورد. إن موظف فى وزارة الصحة لم يحصل على رشوة من صاحب مصنع كفيل بإغلاقه بدعوى وجود حشرات معدية وموظف فى الدفاع المدنى يمكن أن يأخذ القرار نفسه بدعوى غياب الاشتراطات الأمنية وتتكرر الحالة مع موظفين فى جهات أخرى. وتتعقد المشكلة بمصانع شركات قطاع الأعمال المتخلفة تكنولوجيا والمتفجرة بالبطالة المقنعة والمديونة ماليا رغم أنها توزع أرباحا سنوية وهمية (الغزل والنسيج مثلا). وحسب ما عرفت فإن وزير قطاع الأعمال الجديد هشام توفيق بكل خبرته سيقسم شركاته إلى ثلاث فئات حسب المعايير الدولية ليسمح بنسبة أكبر من القطاع الخاص فى ملكيتها إذا كانت محققة لتلك المعايير أو سيرفع من كفاءتها إذا لم تكن قد وصلت إلى المعايير المثالية أو سيغلقها إذا لم يجد فيها فائدة ترجى حتى يوقف نزيف المال العام لدعمها. والمثير للدهشة أن وزارات الصناعة لم تتردد فى الدعاية الإعلانية عن نفسها خلال شهر رمضان الأخير لتغطى ضعفها وعجزها عن حل المشاكل التى تواجهها فى حالة ساذجة غير مسبوقة لتضليلنا وأن تفلح فى إبقاء وزير الصناعة طارق قابيل فى منصبه وسبق أن كشفت ضعفه ولكن وجدت دعما رسميا له يشيد بعبقريته وقدرته السحرية على حل مشاكل الصناعة المستعصية. وأسعدنى أن يبدأ وزير قطاع الأعمال مهمته الحكومية بلقاء وزير الصناعة الجديد عمرو نصار، فالتعاون بينهما سيسهم فى حل كثير من مشاكل الصناعة المشتركة بينهما. وعمرو نصار خبير يعرف قيمة تصدير السلعة الصناعية منذ أن كان مسئولا عن صناعة السيارات فى مرسيدس ونجح فى تصدير أتوبيسات إلى بريطانيا. إن إحدى مشاكل الحكومة المزمنة أن كل وزير فيها يعمل بمفرده فى عزلة عن باقى الوزراء ولو كان بينه وبين زملائه مناطق تماس مشتركة. لم يكن هناك توافق بين وزراء الصناعة وقطاع الأعمال والاستثمار رغم أنهم جميعا فى مركب واحدة وتنافرهم المعلن وتنافسهم المرضى أدى إلى تأخر الصناعة ومضاعفة متاعبها. وتصورت وزيرة الاستثمار أن تغيير ديكورات وزارتها ــ بتكلفة عالية جدا ــ يكفى لجذب المستثمرين ولكن المستثمرون لم يأتوا إلا فى إعلانات التليفزيون التى أفرطت فيها داخليا وكان يجب توجيهها إلى الخارج وكان عليها أن تعلن حجم الاستثمار الفعلى الذى حققته سياستها بعيدا عن استثمارات البترول والغاز التى لا دخل لها فيها. والمؤكد أن الإنقاذ يبدأ بطوق نجاة اسمه الصناعات الصغيرة التى تدعو إليها الحكومة ورصدت لها مليارات لتمويلها ولكن لم نجد بارقة نجاح فيها حتى الآن. إن الصناعات الصغيرة تمثل نسبا مرتفعة لا تقل عن سبعين فى المائة من اقتصاديات الدول المتقدمة وعلى رأسها اليابان وسويسرا وفرنسا وألمانيا. إن صناعة طائرة مقاتلة فى الولايات المتحدة تنتجها شركة لوكهيد مثلا تساهم فيها أكثر من 200 شركة صغيرة تنتج كل منها قطعة من الطائرة أو جهازًا فيها. وكذلك الحال فى صناعة السيارات الإيطالية والكورية والألمانية والأخيرة تستورد من شركة مصرية تيل الفرامل بكميات متزايدة لا توفيها الشركة المصرية مما يعنى وجود فرصة لتوسعها أو دخول شركة مصرية أخرى لسد النقص فى الطلب. لكن الأهم هو دراسة جدوى صحيحة للمشروعات الصغيرة وإلا كان مصيرها مثل مصير المشروعات التى مولها الصندوق الاجتماعى وكادت يسجن أصحابها لعجزهم عن سداد القروض بعد أن أنتجوا عشوائيا ما لم يكن من السهل تسويقه. والأكثر أهمية رفع كفاءة العمالة الماهرة بمزيد من التدريب لتصل إلى المستوى المهنى الراقى ولتزيد من ساعات إنتاجها التى لا تزيد أحيانا عن نصف ساعة يوميا. وهناك جانب آخر لا يمكن إغفاله وهو التصنيع الزراعى لزيادة القيمة المضافة من المحاصيل المنتجة ولعدم إهدار كميات منها إذا ما استخدمت مباشرة بعد جنيها. هذه خواطر عابرة لمناقشة القضية المهمة اقتصاديا.. قضية الصناعة.. القضية التى لو كسبناها عبرنا بلا غرق بحار الأزمات الاقتصادية بكل تيارات الكساد والتضخم والتجريف التى تواجهها.