د. رشا سمير تكتب: قاموس عاشق لمصر
روبير سوليه يكتب بمذاق العشق ولون شمس مصر الذهبية
ولد على أرضها وعاد إليها حاملا قلمه ليؤرخ بقلب احتضن تفاصيلها
ماذا لو كتب الشاعر عن الجمال؟ ماذا لو وصف المُغترب شوقه للوطن؟ ماذا لو تغنى المُلتاع بلقاء الحبيب؟ ماذا لو دندن المظلوم من وراء القضبان بنغمات القهر؟ وماذا لو كتب العاشق عن معشوقته أو أفصح عن عشقه بحروف وكلمات ممزوجة بنبضات قلبه؟..
لو كتب العاشق عن معشوقته لتغزل فى عينيها واستشهد بقدها المياس وغزل من شعرها الحريرى ثوبا من الدانتيلا الناعمة..
على مدار عقود كثيرة، كانت مصر هى المعشوقة.. عشقها كل المستشرقين.. كل من أتوا إليها بغرض الزيارة أو العمل أو حتى الاستجمام.. جاءوا ليروا إحدى عجائب الدنيا السبع فوجدوا ألف سبب آخر للوقوع فى غرامها.. كتبوا بأقلامهم ما رأوه بقلوبهم ورسموا بريشتهم ما لمحته عيونهم من حضارة وجمال وطبيعة خلابة..
إنها مصر.. المعشوقة والحبيبة.. ست الحُسن والحضارة.. الجمال النائم بين صفحات التاريخ..
هكذا رآها روبير سوليه.. وهكذا وقع فى غرامها.. ولهذا قرر أن يكتب عنها.
ولد روبير سوليه فى مصر سنة 1946 لأسرة لبنانية، وتعلم فى مدارسها حتى نهاية المرحلة الثانوية سنة 1962 حين أدى تأميم تجارة والدهم إلى هجرتهم من مصر..
التحق بعدها بكلية الصحافة فى باريس ومارس مهنة الصحافة من 1966 حتى وصل إلى رئاسة تحرير جريدة لوموند ذائعة الصيت.
ومع أنّه يعيش فى باريس منذ عقود، إلا أن زيارات سوليه إلى مصر لم تنقطع منذ 1984 فكتب عدة أعمال روائية ودراسات تاريخية عن مصر التى عشقها ورآها بعين الطفل ثم الشاب وأخيرا الصحافي.. من هذه الروايات (مملوكة) (طربوش) (علماء بونابرت) و(مزاج).. وغيرها من الأعمال التى حملت ملامح تاريخ مصر..
قاموس عاشق لمصر هو مجموعة مقالات أو ومضات تحكى عن بعض الأماكن والأعياد والأشخاص الذين كان لهم تأثير على المؤلف من خلال حياته بالقاهرة.
المركز القومى للترجمة:
اليوم أنا بصدد أن أصطحبكم فى جولة لمصر كما رآها عاشق مصر روبير سوليه.. مصر الأزقة والجوامع والبشر والقهاوى والتواريخ.. مصر فى كتاب (قاموس عاشق لمصر) الصادر باللغة الفرنسية عن دار نشر (Plon) والذى تمت ترجمته من خلال المركز القومى للترجمة فى 495 صفحة من القطع الكبير.. ترجمه الطبيب الذى طرق باب الأدب عادل أسعد الميرى..
هنا يجب أن أُشيد بالمجهود الكبير الذى يقوم به المركز القومى للترجمة من ترجمات أثرت الثقافة المصرية بالكثير من الأعمال التى تغوص فى قلب التاريخ والفلسفة والفن والأدب، كُتب لها ثقلها وتميزها مما يدفع المركز دائما للبحث عن المتميز لترجمته وهو ما جعله اليوم مرجعا مهما لكل من يبحث عن أعمال عالمية وتاريخية مهمة مقابل مبالغ زهيدة من المال مقارنة بما تقوم به دور النشر الأخرى من المغالاة فى أسعار الكتب مما يضمن وصول الأعمال إلى يد البسطاء، وبالتالى فالمركز يؤثر بشكل جيد فى حركة ثقافية محترمة تدعونا لتقدير هذا المجهود المبذول وراء الترجمات من حيث اختيار العناوين والتواجد فى كل المعارض العربية.. كما أن كلمة الحق تدعونى للإشادة بمجموعة الشباب الذين يعملون بالمركز فهم بكل حيادية مجموعة محترمة مثقفة، مُطلعون بشكل جيد على كل ما هو جديد ومستعدين طوال الوقت للإجابة عن تساؤلات مُريدى المركز..
رمضان:
إن رمضان هو شهر الصوم ولكنه على الرغم من ذلك هو الشهر الذى يزيد فيه استهلاك الطعام، فيعد له التجار عدتهم قبل مجيئه..
من أجمل تقاليد رمضان كما يقول سوليه هو إهداء الأطفال المصابيح ذات زجاج متعدد الألوان (الفانوس) كانت موجودة بالأمس فى الأسواق مزودة بمكان لوضع شمعة أما الآن فهى غالبا إلكترونية تُضىء وتُطفأ وتعزف أغانى غربية!.
من الملاحظ أنه ساعة الإفطار يحل هدوء غير عادى على شوارع القاهرة ولكنها ساعة خطرة للقيادة حيث يطير سائقو السيارات بسياراتهم فى سبيل اللحاق بالإفطار..
فى حرب أكتوبر 1973 رفض جنود الجيش المصرى تناول الغذاء رغم السماح الخاص الصادر من السلطات الدينية لرجال الجيش.
كليوباترا:
قيل عنها كل شىء.. قيل عنها الشىء وعكسه.. امرأة ذكية أم مغوية؟ جميلة أم قبيحة؟ ضحية أم شهيدة؟.
كليوباترا هى المرأة التى شغلت العقول والقلوب لمدة عشرين قرنا..
كانت ملكة فى الثامنة عشرة من عُمرها، تزوجت على التوالى باثنين من أخواتها ثم أحبت يوليوس قيصر وتبعته بزيجتها الشهيرة من سيد روما الجديد مارك أنطونيو قبل أن تهزمها جيوش القيصر فتقرر الانتحار..
ورثت مملكة متهالكة عرفت الفوضى والمذابح والمكائد والثورات من كل نوع، وهى نفس المملكة التى ظلت عاصمتها الإسكندرية أكثر مُدن العالم بريقا.. وخلافا لأسلافها وقعت كليوباترا فى حب مصر، فتحدث اللغة المصرية واعتنقت مذاهب مصر ومارست طقوسها..
هل كانت كليوباترا امرأة قبيحة؟ سؤال أجاب عنه بلوتارخوس منذ قرون طويلة حين كتب عنها:
(إن جمالها فى حد ذاته لم يكن من النوع الذى يقبل مقارنته بجمال غيره، ولم يكن من أنواع الجمال التى تُدهش الناظر، لكن مجرد الوجود فى حضرتها والحوار معها والإطار العام الذى تظهر به، هو ما جعل منها شخصية لا تقاوم).
الخُرافات:
كثير من المصريين يعتقدون جازمين بأن لهم قرائن.. قادرين على جلب الضرر لهم.. والناس البسطاء مازالوا يخضعون لحفلات الزار..
إن الاعتقاد فى الخرافات يعبر القرون.. من مصر القديمة إلى مصر اليوم.. إن الاعتقاد فى أن تسمية شخص أو شىء يمكنك من الاستحواذ عليه.. أو يكفى أن تكون معك صورته لتلحق الأذى به هى اعتقادات قديمة مازالت تعيش حتى الآن فى وجدان المصريين..
ولا تزال الزوجات الريفيات يمارسن الوصفات القديمة الخاصة بمنع الحمل وهى بلع نواة البلح أو حبة نبات الخروع، ومن المفترض أن كل نواة تُبلع تضمن عدم الإنجاب لمدة عام.
وفى الصراع مع العقم مازالت هناك ممارسات تتم من قبل السيدات المصريات حتى اليوم مثل الدوران سبع مرات حول هرم خوفو بالجيزة.. وقد تدفع الفلاحة الفقيرة ثمن تذكرة المتحف فقط للمس التماثيل للتيمن بقدراتهم الفائقة على جعلها حامل!.
ومازال السبوع الذى يُقام للطفل هو أحد الطقوس المُختلطة بالخرافات التى مازالت تُمارس فى كل الطبقات الفقيرة والثرية على حد السواء.
الاحتلال البريطانى:
عام 1882 قال الإنجليز:
(نحن لا نحتل مصر، إن وجودنا فيها مؤقت، الغرض الوحيد منه تثبيت سُلطة الخديوى توفيق، وضمان أمن المقيمين الأجانب).
إن الوجود المؤقت استمر سبعين عاما بحجج مختلفة فى كل مرة.. حتى إن بعد توقيع معاهدة 1939 لم تقبل إنجلترا سحب قواتها من منطقة السويس بحجة حماية مصالحها فيها، إلا أن القوات تعود من جديد إلى القاهرة مع بداية الحرب العالمية الثانية..
إن الرجل الذى يرمز أكثر من غيره إلى هذا النوع من الاحتلال هو إيفلين بارينج الذى عُرف فيما بعد باسم اللورد كرومر، كان لكرومر قدرة خاصة على إدراك اتجاهات الرأى العام.. وهنا أعنى الرأى العام الأوروبي، فى كتابه (مصر الحديثة) يقدم عرضا لفترة حكمه فى مصر، يشير فيها بفخر إلى إنجازاته.. ويقول فيها إنه نجح فى القضاء على ثلاثة مصادر من البلاء فى البلاد، هى العمل بالسُخرة واستعمال الكرباج والفساد!.
الجدير بالذكر أن عنف الاحتلال البريطانى أدى إلى وقوع مصادمات عنيفة بين الشعب وبينهم فى حوادث متعددة مثل حادثة دنشواى سنة 1906..
قاموس بعدد كلمات العشق:
الحقيقة أن روبير سوليه تطرق إلى أشياء كثيرة ومسميات عديدة فى قاموسه.. ما عاشه من أحداث قديما وحديثا، ورؤيته كرجل أجنبى الجنسية مصرى المنشأ على أرض السبعة آلاف سنة حضارة..
كتب الروائى فى افتتاحية قاموسه الذى يستحق الاقتناء كلمات رقيقة قال فيها:
(إن ما نُطلق عليه بفظاظة (جنون مصر القديمة) ليس مرضا وليس موضة ولكنه انجذاب عظيم يصل إلى حد الوله والافتتان، لقد سقط الرومانيون واليونانيون القدماء صرعى لهذا الجنون، ولم تتوقف الحضارة الفرعونية عن الإغواء والإثارة بآثارها ومومياواتها وعلاماتها الهيروغليفية.. وبما أن مصر أصبحت أحد مصابيح الإنارة فى الشرق المُسلم فقد أضافت سحرا جديدا يخرج عن المألوف..
إن هذا البلد يفتننى ويُعذبنى، وأشعر بقوة ارتباطى به عندما يعذبنى فتذهب أفكارى بشكل طبيعى نحو مدافن الروم الكاثوليك الهادئة فى القاهرة حيث ترقد رفات العديد من أسلافى إلى جوار شخصيات رواياتى تحت أشجار يبلغ عمرها مئات السنين)..
هذا الكتاب ببساطة هو قاموس كل عشاق مصر، لكل من أرادوا أن يضيفوا إليه مصطلحات عاشوها بأنفسهم وأماكن سكنوها فسكنتهم وأحداث مذاقها سبعة آلاف سنة حضارة وأشخاص صنعوا بإنجازاتهم حالة من عشق لوطن لا ينحنى أبدا... القاهرة الساحرة.