عادل حمودة يكتب: خرافة مهاتير محمد من خامس الخلفاء الراشدين إلى "أبو لهب"

مقالات الرأي



أدخل العقل المفكر للتجربة الماليزية أنور إبراهيم السجن بتهمة الفساد والشذوذ وتحالف معه من جديد ليعود إلى السلطة التى أدمنها

انتقد بقاء مبارك فى الحكم وعمره 86 سنة لكنه يحكم الآن وعمره 92 سنة!

عندما التقيت به لاحظت أنه يجمد ملامح وجهه حتى لا يكشف أحد ما فى أعماقه ولا ينظر فى عين محدثه حتى لا يكشف كذبه!


عندما جاء مهاتير بن محمد إلى مصر فى صيف عام 2011 كان نظام مبارك قد سقط بالشيخوخة وفشلت كل عمليات التجميل التى أجريت له.

ولم يكن أحد يحتاج إلى جهد كبير ليكشف آثار هذه الشيخوخة السياسية فى ضعف البصر والبصيرة وفقدان الذاكرة وكثرة الثرثرة وسخرية اللسان.

ووجدها مهاتير محمد فرصة ليبرز لنا نجوميته وحكمته وديمقراطيته لمجرد أنه اكتفى بحكم ماليزيا 22 سنة ونسينا أنه وصف خلالها بالديكتاتورية والفاشية وضاعف من بناء المعتقلات وسود سجل بلاده فى الحريات وما خفى كان أسوأ.

ومن جانبنا رحنا نلقى عليه أوراق الورد ونفرش السجاجيد الحمراء ونتلمس منه الخبرة والبركة وكأنه المهدى المنتظر الذى سنتعلم منه كيف تصبح حياتنا سمنا على عسل وحرية على حرير وحبا على نعيم.

ولاشك أن سيرة حياة مغرية بالقراءة بدأت بصبى يبيع الموز والفطائر ليساعد والده فى توفير الطعام لأشقائه الثمانية وانتهت برئيس حكومة جرىء نجح فى أن تصبح بلاده معجزة من معجزات النمور الآسيوية بنظام تعليم متطور وباستغلال أفضل للموارد وبنظام صارم فى التشغيل يمنح الخبز لمن يعمل ويفتح القبر لمن يمرض وأخضع رجال الدين لسلطانه بصفته أولى الأمر منهم الذى توجب طاعته ولو عدل أحكام الشريعة لصالحه.

ولكن التنمية المادية مهما علت دون ديمقراطية شعبية تراقب وتحاسب سرعان ما يتسلل إليها سوس الفساد فينخر فيها ويضعفها حتى تنهار وهو ما آلت إليه تجربة مهاتير على يد رئيس حكومتها الأخيرة نجيب رزاق الذى يحقق معه الآن بتهمة نهب مليارات الدولارات من صناديق سيادية للاستثمار ومنع هو وزوجته روسماه من مغادرة البلاد.

كان نجيب رزاق حليفا سابقا لمهاتير محمد ولكنه لم يتردد كعادته فى التخلص منه ومحاكمته بل وفضحه بنشر فيديوهات عن مقتنياته الشخصية التى جمعت فى 72 حقيبة واحتوت على عملات أجنبية ومحلية وساعات ومجوهرات من أشهر وأغلى الماركات.

وخلال زيارة مهاتير محمد للقاهرة اختيرت أنا وعبد الحليم قنديل ورئيس تحرير ثالث أعتذر عن تذكر اسمه لمقابلته فى جناح فندقه (أغلب الظن هيلتون رمسيس) وحددت المقابلة بساعة أو ربما نصف ساعة وحذرنا من تجاوز الوقت خاصة أننا نلنا شرفا لم يحظ به غيرنا من الصحفيين الذين حسدونا عليه.

راح الرجل الذى وصف فى صحافتنا بنجم نجوم الحكم الإسلامى المعاصر يشيد بموهبة الإخوان فى مصر ويطالب بمساندتهم إذا ما أخذوا طريقهم للحكم وكأنه كان مكلفا من تنظيمهم الدولى بتوصيل هذه الرسالة إلينا وهو ما تأكد فيما بعد عندما استضافه محمد مرسى فى القاهرة قبيل عزله بأيام قليلة ليشد من أذره فى مواجهة عاصفة ثورة يونيو التى أصبحت على أبواب قصر الاتحادية.

وصف مهاتير تغيير الحكم فى مصر بالانقلاب ولم يتردد فى استضافة قيادات من الجماعة أبرزهم جمال حشمت وعمرو دراج فى كوالالمبور تحت غطاء منتديات للفكر، كما منح عشرات الطلاب المنتمين لفكر حسن البنا فرصا للدراسة الجامعية فى ماليزيا مجانا.

وفى لقائنا معه لم ينس مهاتير محمد التعرض لحالة النهب التى عشناها فى ثلاثين سنة بعشرات المليارات كان من الممكن أن تغنى الشعب وتكفيه هم الاقتراض من الخارج وتجنبه الروشتة المؤلمة لصندوق النقد الدولى.

ولاحظ زميلى فى اللقاء أننى تركت لهما فرصة السؤال مكتفيا بالقليل منه فقد كنت فى الحقيقة أعرف مقدما ما سيقول وكان يهمنى أكثر أن أتأمله وأقرأ لغة جسده وأتحسس مدى صدق كلماته.

لاحظت أنه عندما يتكلم لا ينظر فى عين محدثه وكأنه يخشى أن يكشف كذبه، كما لاحظت أنه يصر على أن يقول ما يريد بغض النظر عن السؤال الموجه إليه كما أنه يجمد ملامح وجهه حتى يصعب كشف ما يضمر.

لم كان هذا الموقف المسبق منه؟

الإجابة : أنور إبراهيم!

أنور إبراهيم هو العقل الحقيقى وراء تجربة مهاتير محمد وكان نائبه فى رئاسة الحكومة ووزير ماليته وبفضل برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى ابتكره وضعت ماليزيا على طريق التنمية المستقلة التى أخذت بها دول آسيوية أخرى استفادت من العمالة الرخيصة فيها لتصنيع منتجات الدول المتقدمة بتكلفة أقل جذبت فوائض الاستثمارات الأمريكية والأوروبية إليها لتحقق معدلات نمو مفاجئة وغير متوقعة جعلتها توصف بالنمور.

وكان متفقا عليه أن يتنازل مهاتير محمد له عن الحكم فى عام 1998 وهو ما شجع أنور إبراهيم على عرضه برنامجه فى الإصلاح السياسى الذى تضمن الإفراج عن المعتقلين السياسيين وعدم مطاردة أصحاب الرأى وتوفير مناخ أفضل للجمعيات الأهلية بجانب حياد مؤسسات الدولة خلال الانتخابات التشريعية وهو ما كانت تشكو منه المعارضة فى وجود مهاتير محمد وكانت سببا مباشرا لاستمراره فى الحكم من 16 مايو 1981 إلى 31 أكتوبر 2003.

ولكن فجأة وبلا مقدمات أقيل أنور إبراهيم من جميع مناصبه وقبض عليه واقتيد إلى السجن بعدة تهم من أبسطها الفساد واستغلال النفوذ وأسوأها اللواط وحكم عليه بالسجن ست سنوات وسط شكوك فى نزاهة المحكمة إلا أن مهاتير محمد أصر على المضى فى الحكم فقد أراد تحطيمه جسديا بعد أن اغتاله معنويا.

وراحت وان عزيز زوجة أنور إبراهيم تدافع عن زوجها بصبر وثقة فى نزاهته المالية والجسدية وقادتنى الصدفة لسماعها فى مركز لندن للدراسات الاستراتيجية ووجدت هناك من يشبهها بإزيس التى راحت تجمع أشلاء زوجها أوزوريس بعد أن قتله ست إله الشر كنا فى الأسطورة الفرعونية الخالدة ونشرت ما سمعت منها فى مقال على صفحات الأهرام.

فى عام 2004 خرج أنور إبراهيم من السجن وسافر إلى ألمانيا للعلاج قبل أن يعود معارضا إلى بلاده بحزبه الجديد (حزب عدالة الشعب) الذى فاز بواحد وثلاثين مقعدا فى البرلمان (222 مقعدا) دون أن يحق له خوض الانتخابات بسبب الحظر الذى نجح مهاتير محمد فى فرضه عليه ولم ينته إلا فى عام 2008 حيث أصبح زعيما للمعارضة.

ولكن فى العام التالى (2005) رفضت المحكمة العليا فى ماليزيا للمرة الثانية الاستئناف الذى تقدم به أنور إبراهيم لرد اعتباره وإسقاط تهمة اللواط عنه بل إنها أعادت محاكمته من جديد بنفس التهمة المشينة ولكن بدا مؤكدا أنه يتعرض إلى مؤامرة من رئيس الحكومة الجديد نجيب رزاق وزوجته روسماه اللذين استخدما قضيته فى إلهاء الشعب عن الفتن الطائفية المتفجرة ومستويات المعيشة المنهارة ولم يكن خافيا على أحد أن مهاتير محمد يدعمهما.

وتكاد لا توجد صحيفة أو شبكة إخبارية فى العالم لم تكشف الدور الخفى الذى لعبه مهاتير محمد فيما جرى لمنافسه أنور إبراهيم.

إن ما تصورناه موسى كان فى حقيقته فرعونا والرجل الذى دخل علينا بثياب المصلحين كان واحدا من أكبر الملفقين ورغم أنه تحدث إلينا بصوت هتلر إلا أننا من ولعنا به تحول صوته إلى صوت بتهوفن أو فاجنر أو أم كلثوم.

وليس فى ذلك ما يثير الدهشة فالشعوب بحثا عن الحلم تغير ملامح الحاكم وتعيد صياغته على هواها ولا تقبل بغير الصورة التى تخترعها له حتى يأتى يوما تكتشف فيه أنها خدعت نفسها بنفسها وإن لا تتعلم الدرس فى كثير من الأحيان وهو ما حدث مؤخرا فى ماليزيا.

لقد سمعنا من مهاتير محمد أنه ندم على بقائه فى الحكم 22 سنة وأنه كان يكفيه 12 سنة فالعشر سنوات الأخيرة قضاها فى مواجهة المؤامرات والانقلابات ولو كان قد قضاها خارج السلطة لخفف من حالات العداء التى تزايدت يوما بعد يوم خلال تلك السنوات ولاستمتع بحياته الشخصية والعائلية أكثر.

ورحنا نصفق له ونشد على يده ونشيد به ولكن ما حدث مؤخرا أثبت الحجم الكبير من السذاجة التى كنا نتمتع بها.

لم يتردد مهاتير محمد وقد وصل عمره إلى 92 سنة فى أن يرشح نفسه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة ليفوز فيها ويعود إلى السلطة ليبقى فيها حتى آخر نفس فما الذى يمكن أن يقدمه إلى بلاده وهو فى ذروة الشيخوخة البدنية والسياسية؟

ليس هناك تفسير لما فعل سوى إدمان السلطة الذى تصور أنه يمكن أن ينجو منه ولكنه لم يستطع فعاد إلى ذلك المخدر الذى يضعه علماء النفس على رأس المتعة التى يشعر بها البشر قبل الجنس والثروة وإن تأتى بهما غالبا.

والمثير للدهشة أنه قرر التحالف مع أنور إبراهيم فتدخل لدى سلطان ماليزيا الرابع عشر عبد الحميد معظم للعفو الشامل عنه وهو ما يثير الكثير من علامات التعجب والاستفهام فلو كان اللواط من الكبائر فى دولة مسلمة فكيف يقبل رئيس وزرائها العائد إلى حكمها التعامل مع شخص اتهم به وعوقب عليه؟ وإذا كانت التهمة ملفقة له فكيف سكت مهاتير محمد على ظلم صديقه وحليفه بها؟ والأسوأ كيف وافق أنور إبراهيم على أن يمد يده من جديد إلى رجل سجنه وحطمه واغتال شخصه بأسوأ ما ينسب لرجل كان فى يوم من الأيام زعيما لمنظمة الشباب الإسلامى؟

لقد عاد الحليفان اللدودان إلى الحكم بمؤامرة شارك فيها رجال أعمال مولوا شراء بيانات مسروقة وملعوب فيها ضد نجيب رزاق نشرتها كلير ريو كاستل فى مدونتها البريطانية على الإنترنت وبلغت تكلفة المؤامرة ثلاثة ملايين دولار سوف تعود على من دفعها أضعافا مضاعفة فى صفقات وعدوا بها من رئيس الحكومة الجديد مهاتير محمد وتابعه أنور إبراهيم.

إن السياسة الباحثة عن السلطة مستنقع من العفن والطفيليات والحشرات اللادغة القاتلة والتماسيح الشرسة التى تأكل بعضها البعض إذا لم تجد من تفترسه غيرها.

لقد تصورنا أن مهاتير محمد هو خامس الخلفاء الراشدين فلم نقبل عنه كلمة واحدة تؤلمه وكان علينا أن ننتظر سنوات طوال حتى نكتشف أنه أبولهب.