مي سمير تكتب: بيزنس السجون فى أمريكا
سهم إحداها يتضاعف 34 مرة
500 مليون جنيه أرباح شركة من إدارة سجن مقاطعة
الولايات تبنى سجونا سرية لاستجواب المشتبه فيهم دون إشراف قضائى وتقارير رسمية عن انتهاكات بحق المعتقلين
تعرف الولايات المتحدة الأمريكية ظاهرة يطلق عليها اسم السجون الخاصة، أو السجن الخاص الهادف إلى الربح، هو مكان يتم فيه احتجاز الأفراد بواسطة طرف ثالث بموجب عقد مع الحكومة الأمريكية أو على وجه التحديد إحدى الوكالات التابعة لها.
عادة تدخل شركات السجون الخاصة فى اتفاقيات تعاقدية مع الحكومات وتستغل السجناء مقابل بدل يومى أو شهرى، عن هذه الظاهرة نشرت مجلة إيكونوميست تحقيقاً يتناول العالم المظلم لسجون أمريكا حيث تقترب أوضاع السجناء من حد العبودية، ولكن العبودية ليست هى المشكلة الوحيدة التى تواجه السجين الأمريكى بعد أن انتشرت أيضاً فى الأونة الأخيرة ظاهرة السجون السرية حيث يتم احتجاز المشتبه فيهم واستجوابهم بشكل سرى وغير قانونى.
لدى الحكومة الأمريكية تاريخ طويل فى التعاقد مع شركات خاصة على خدمات محددة بما فى ذلك الخدمات الطبية، وإعداد الطعام، والتدريب المهنى، ونقل السجناء، ومع ذلك، بدأت فى ثمانينيات القرن الماضى، عهدا جديدا من خصخصة السجون، فمع ارتفاع عدد نزلاء السجون نتيجة الحرب على المخدرات وزيادة استخدام أماكن الاحتجاز، أصبح اكتظاظ السجون وارتفاع التكاليف مشكلة على نحو متزايد بالنسبة للحكومة الأمريكية.
ورأت المصالح التجارية الخاصة فرصة للتوسع، وبالتالى انتقل تدخل القطاع الخاص فى السجون من التعاقد البسيط للخدمات إلى التعاقد من أجل الإدارة الكاملة وتشغيل السجون بكاملها.
برزت شركة السجون الخاصة الحديثة لأول مرة فى عام 1984 عندما حصلت شركة Corrections الأمريكية، المعروفة الآن باسم CoreCivic، على عقد للاستحواذ على منشأة فى مقاطعة شيلبى، بولاية تينيسى، كانت هذه هى المرة الأولى التى تتعاقد فيها أى ولاية أمريكية مع شركة خاصة من أجل التشغيل الكامل للسجن.
فى العام التالى، وبسبب الأرباح الكبيرة عرضت الشركة الاستحواذ على نظام ولاية تينيسى للسجون بالكامل مقابل 200 مليون دولار، وتم رفض العرض فى نهاية المطاف بسبب معارضة قوية من الموظفين العموميين وشكوك الهيئة التشريعية فى الولاية، ورغم هذه الهزيمة الأولية، إلا أن الشراكة بين الولايات الأمريكية والشركات الخاصة بدأ فى التوسع بنجاح.
تشير إحصائيات وزارة العدل الأمريكية إلى أنه اعتباراً من عام 2013، كان هناك 133 ألف سجين حكومى وفيدرالى يقيمون فى سجون مملوكة للقطاع الخاص فى الولايات المتحدة، ويشكلون 8.4٪ من إجمالى عدد نزلاء السجون وتشمل الشركات التى تعمل مثل هذه المرافق شركة Corrections الأمريكية، ومجموعة GEO، وشركة الإدارة والتدريب، ومراكز تعليم المجتمع.
فى العقدين الأخيرين زادت أرباح CCA بأكثر من 500 %، وحققت صناعة السجون ككل عائدات تزيد على 5 مليارات دولار فى عام 2011.
ولاحظت بنوك وول ستريت هذا التدفق النقدى، وهى الآن من أكبر المستثمرين فى صناعة السجون، ومن بين كبار المستثمرين «بنك أوف أمريكا» و«فيديليتى انفستمنتس» و«جنرال إلكتريك»، كما ارتفع سعر سهم CCA من دولار فى عام 2000 إلى 34.34 دولار فى عام 2013.
ويؤكد عالم الاجتماع جون كامبل والناشط والصحفى كريس هيدجز على التوالى أن السجون فى الولايات المتحدة أصبحت مربحة بشكل كبير.
أمضى النقاد سنوات فى توجيه غضبهم نحو السجون الخاصة، من خلال الإشارة إلى الخطر الأخلاقى الذى خلق عند الاستفادة من العقاب، وتسبب جيف سيشيس، المدعى العام، فى إحداث ضجة فى الشهر الماضى عندما ألغى توجيهاً من عهد الرئيس السابق باراك أوباما للتخلص التدريجى من التعاقد الفيدرالى مع شركات السجون الخاصة، والتى تتوقع أرباحا صافية فى ظل دونالد ترامب، حيث ارتفع سعر سهم CoreCivic، بنسبة 43٪ فى يوم واحد بعد انتخاب ترامب، تحسباً لعقود تشغيل مربحة لمراكز احتجاز المهاجرين.
إلى جانب السجون الخاصة التى تستغل السجناء كعمالة رخيصة، يفرض القانون فى أمريكا العمل على المساجين، ومعظم المدانين إما يعملون من أجل لا شىء أو مقابل أجر ضئيل، وعلى المستوى الفيدرالى، يدير مكتب السجون برنامجاً يعرف باسم «مؤسسات السجون الفيدرالية» يدفع للسجناء حوالى 0.9 دولار فى الساعة لإنتاج كل شيء من المراتب والنظارات وعلامات الطريق والدروع الواقية للهيئات الحكومية الأخرى، وقد حققت هذه الصناعة مبيعات بقيمة 500 مليون دولار فى السنة المالية 2016. كما قام السجناء بإنتاج أختام رسمية لصالح وزارة الدفاع ووزارة الخارجية.
وفى العديد من السجون، يكون الأجر بالساعة أقل من تكلفة شريط الشيكولاتة فى محل البيع، ومع ذلك تظل قائمة الانتظار طويلة - لا يزال البرنامج يدفع أكثر بكثير من 0.12 إلى 0.40 دولار التى يتم الحصول عليها لساعة من عمل المطبخ.
وتوجد خطط مماثلة على مستوى الولايات أيضاً، ما يجعل السجون الأمريكية بمثابة سوق تضم عشرات الآلاف من العمال فى صناعة بقيمة تزيد على مليار دولار، ومن المتوقع أن يحقق برنامج تشغيل السجناء فى كاليفورنيا مبيعات بقيمة 232 مليون دولار هذا العام، معظمها من الإنشاءات والمنسوجات، إلى جانب 10 ملايين دولار متوقعة أيضاً من قطع اللحوم.
وفى إيداهو، السجناء يطبخون البطاطا، فى ولاية كنتاكى، يبيعون ما قيمته مليون دولار من الماشية، كما أن السجون الأمريكية المملوكة للعموم تقوم بتوفير العمالة للشركات الخاصة منذ عام 1979، ويشارك أكثر من 5 آلاف سجين فى المخطط المعروف باسم «تحسين صناعة السجون».
1- العبودية الجديدة
حسب معهد جلوبال ريسرش، تدين منظمات حقوق الإنسان، فضلاً عن المنظمات السياسية والاجتماعية، ما يطلقون عليه شكلا جديدا من الاستغلال اللاإنسانى فى الولايات المتحدة، حيث يقولون إن عدداً من السجناء يصل إلى مليونى شخص - معظمهم من السود وذوى الأصول الإسبانية - يعملون لصالح مختلف الصناعات مقابل أجر زهيد.
وبالنسبة للأباطرة الذين استثمروا فى صناعة السجون، كان الأمر يشبه إيجاد وعاء من الذهب، فلا داعى للقلق بشأن الإضرابات أو دفع تأمين البطالة أو الإجازات أو وقت العمل، فجميع عمالهم متفرغون، ولا يصلون متأخرين أو يتغيبون عن العمل بسبب مشاكل عائلية، علاوة على ذلك، إذا لم يعجبهم أجر 25 سنتا فى الساعة ورفضوا العمل، يتم حبسهم فى زنزانات معزولة.
وتشير الأرقام إلى أن الولايات المتحدة احتجزت أشخاصا أكثر من أى بلد آخر: فى أمريكا نصف مليون سجين أكثر من الصين التى يزيد عدد سكانها خمسة أضعاف، وحسب دراسة أعدها حزب العمال التقدمى فإن صناعة السجون فى أمريكا تعد تقليدا لألمانيا النازية فيما يتعلق بالعمل القسرى والسخرة فى معسكرات الاعتقال، وارتبطت هذه الصناعة بالكثير من قصص الفساد.
فى عام 2008 عرفت الولايات المتحدة فضيحة بعنوان«الأطفال من أجل المال» التى تكشف عن حصول اثنين من القضاة فى محكمة مقاطعة لوتزيرن على رشاوى فى مقابل فرض أحكام قاسية على الأحداث لزيادة عدد المقيمين فى مراكز الاحتجاز التى تهدف إلى الربح.
ولا يقتصر الأمر على استغلال المساجين بشكل غير إنسانى، ولكن تشير التقارير إلى الكثير من الانتهاكات الأخرى ووجد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش لعام 2015 أن السجناء المصابين بأمراض عقلية فى جميع أنحاء الولايات المتحدة يتعرضون للإيذاء الجسدى الروتينى من قبل الحراس.
ووجد التقرير المكون من 127 صفحة أن أغلب هؤلاء المساجين يعانون من الإصابات الجسدية، وقال جيمى فيلنر، المستشار الأقدم فى هيومن رايتس ووتش الذى كتب تقرير 2015، إن السجون يمكن أن تكون خطرة ومدمرة وحتى أماكن مميتة للرجال والنساء الذين يعانون من مشاكل صحية عقلية، وجد الاستطلاع الوطنى الذى أجراه مكتب إحصاءات العدالة التابع لوزارة العدل أن 4.4 % من السجناء كانوا ضحية للإيذاء الجنسى.
2- السجون السرية
قد لايعتقد أحد أن فى دولة مثل الولايات المتحدة يمكن أن تلجأ الولايات المختلفة فيها إلى تأسيس سجون سرية داخل أراضيها على غرار السجون السرية التى أسستها المخابرات الأمريكية فى مختلف أنحاء العالم لاستجواب وتعذيب المشتبه فيهم فيما يعرف بالمواقع السوداء، ولكن التقارير الصحفية الأخيرة أثبتت عكس ذلك.
حسب تقرير شهير أجراه الصحفى الاستقصائى ويل بوتر بعنوان «تاريخ السجون السرية فى أمريكا»، المنشور على موقع إيديز، تعكس السجون السرية نظاما قانونيا موازيا للسجناء الذين يحرمون من الوصول إلى الاتصالات، ويحرمون من حقوقهم فى إجراءات التقاضى السليمة .ويضيف بوتر أن الولايات المتحدة لديها تاريخ مظلم لعقاب الناس بشكل غير متناسب بسبب آرائهم السياسية، وهو تاريخ تم تجاهله أو نسيانه إلى حد كبير، واليوم، وفى ظل الراية المتزايدة للأمن القومى و«الحرب على الإرهاب»، استمر هذا الاتجاه فى السرية.
ويشير بوتر إلى أنه لا يقصد المرافق التى لا يعرفها الجمهور مطلقاً، بعد كل شىء، حتى معسكرات الاعتقال السوفيتى كانت معروفة داخل البلاد وعلى المستوى الدولى، ولكنه يقصد بتعبير السجون السرية هى تلك التى تعمل تحت معيار منفصل عن السجون التقليدية، وهى تعكس نظاماً قانونياً موازياً للسجناء الذين سواء بسبب عرقهم أو دينهم أو معتقداتهم السياسية، منعوا من الوصول إلى الاتصالات، وحرموا من حقوقهم فى إجراءات التقاضى السليمة، وتم إخفاء سجلات احتجازهم عن التدقيق العام.
ربما كانت أشهر واقعة لاستخدام هذه الإجراءات سيئة السمعة هو اعتقال 120 ألف يابانى خلال الحرب العالمية الثانية، بعد قصف بيرل هاربور، قام مكتب التحقيقات الفيدرالى باعتقالات للعديد من اليابانيين المقيمين فى الولايات المتحدة وأرسلهم إلى معسكرات الاعتقال رغم أن أغلبهم كان يحمل الجنسية الأمريكية.
وهناك مثال تاريخى أكثر شهرة وهو سجن الكاتراز، حيث وصفت الحامية العسكرية السابقة بأنها «نهاية الخط» والسجن الأكثر قمعاً فى البلاد، وحسب بوتر، فإن الكاتراز كان أكثر من ذلك، فقد كان السجن الشهير مجرد حلقة فى سلسلة القصاص والسرية، كانت جزيرة بعيدة كل البعد عن الرقابة العامة، سواء جغرافياً أو سياسياً، ووصفت تقارير الوحشية المتفشية على نطاق واسع داخل السجن.
تم استبدال الكاتراز عام 1963 ببناء سجن يو إس بى ماريون فى سان فرانسيسكو، وطبق المسئولون فى هذا السجن واحدا من أكثر الأنظمة إساءة لحقوق السجناء فيما يعرف ببرنامج تعديل السلوك يسمى التحكم وإعادة التأهيل عام 1968.
ووفقا لهذا البرنامج يقضى السجناء وقتهم فى الحبس الانفرادى أو فى جلسات «العلاج الجماعى» حيث كانوا يتعرضون للتوبيخ لسلوكهم المنحرف لحثهم على تغييره، وفى عام 1973، تم إنشاء أول «وحدة تحكم» فى السجناء حيث يقضى السجناء ما بين 23 إلى 24 ساعة فى اليوم فى زنزانات انفرادية تم تصميمها خصيصاً للحد بشكل كبير من اتصال النزيل بأشخاص آخرين داخل السجن والعالم الخارجى.
وفى الثمانينيات تم إنشاء وحدة مماثلة للنساء فى سجن النساء الفيدرالى فى ليكسينجتون، كنتاكى، لإيواء السجناء السياسيين المنتمين إلى أى منظمة من شأنها تهديد أمن الولايات المتحدة، وفقا لمكتب السجون.
وضم هذا السجن العديد من الناشطات السياسات مثل سيلفيا بارالدينى وأليخاندرينا توريس، اللتين دعمتا صراعات الاستقلال فى بورتوريكو، وفى هذا السجن تعرضت السجينات لعمليات منتظمة من الانتهاكات وسوء المعاملة.
وتسلل مفهوم الإجراءات السرية فى سجون إدارات إنفاذ القانون، وفى شيكاجو، تقوم إدارة الشرطة بتشغيل مجمع استجواب يدعى ميدان هومان، وهذا المجمع غير رسمى وهو ما يعنى أن الأمريكيين المحبوسين فى الداخل غير مدرجين فى قواعد بيانات الشرطة ولا يمكن العثور عليهم من قبل الأصدقاء والعائلة.
ويتم حرمان المعتقلين من الاتصال بمحامين، وقد أبلغ بعضهم عن قيام الشرطة بالاعتداء عليهم بالضرب، حيث يتم احتجاز الأشخاص فى غرف التحقيق لمدة تتراوح بين 12 و24 ساعة.
هذه الصورة القاتمة لحالة السجون فى الولايات المتحدة تعكس من جديد سياسة الولايات المتحدة الخارجية القائمة على مبدأ «أفعل ما أقول وليس ما أفعل»، حيث لا تتردد الولايات المتحدة فى مطالبة الدول بتطبيق حقوق الإنسان بما فى ذلك مراجعة الأوضاع فى سجون دول العالم، بينما هى نفسها تطبق نظاما أقرب للعبودية فى سجونها.