د. نصار عبدالله يكتب: رحيل المتعبد بالوطن.. حبا لله "1"

مقالات الرأي



منذ أيام قليلة تحديدا فى السادس من هذا الشهر مايو 2018 رحل خالد محيي الدين الذى كان يمثل نموذجا نادرا جدا من الرموز السياسية ذات الأصل العسكري التى تظل بعد انغماسها فى السياسة محتفظة بنفس التكوين النفسى للإنسان المؤمن بمبادئه وقضايا وطنه، وفى مقدمتها الحرية والعدالة والديمقراطية، ذلك التكوين الذى يجعل الإنسان يعطى ويعطى، ولا ينتظر المقابل .. ربما شابهه فى هذه السمة يوسف صديق أحد أبرز من ساهموا فى إنجاح ثورة 23يوليو 1952، لكن يوسف صديق كما نشعر بوضوح من مذكراته وأوراقه وكذلك من مجمل سيرته، لم تكن نفسه عامرة بذلك الصفاء الروحى الذى كانت تمتلىء به جوانح خالد حتى آخر لحظة فى حياته.. وربما كان هذا راجعا إلى طبيعة مولد خالد محيى الدين نفسه، ونشأته فى أسرة ميسورة تنتمى إلى الطريقة النقشبندية الصوفية، بل إنها فى الحقيقة تمثل قمة تلك الطريقة ممثلة فى شيخها وناظر وقفها الشيخ عثمان خالد جد خالد محيى الدين لوالدته والذى سمى باسمه (الأرجح أن لهذه التسمية فى حد ذاتها تأثيرا على الطفل الذى يحمل اسم شيخ الطريقة، وتذكيرا دائما له بأن يكون عند حسن ظن جده وشيخه).. فى تكية النقشبندية عاش محيى الدين ما وصفه فى مذكراته بأنه أجمل أيام حياته.. فقد كانت التكية كما وصفها فى كتاب : «الآن أتكلم».. كانت بيتا شرقيا ساحرا ذا حديقة واسعة مليئة بالأشجار والورود والتمرحنة، بها فسقية فى المنتصف، وبها أيضا قبر الجدالأكبر للأم الشيخ الخليفة: «محمد عاشق».. لاحظ دلالة الاسم: عاشق الذى لا أظن أنه محض اسم فحسب فالأرجح فى رأيى أن العشق (الإلهى بطبيعة الحال) قيمة تسرى فى دماء الكثيرين من أبناء تلك الأسرة.. كما كان بالحديقة كذلك مسجده (مسجد الشيخ عاشق).. المسجد يعلو فيه الأذان كل خمس مرات، ودراويش التكية ومعهم جميع أفراد الأسرة يصلون.. ويذكر لنا خالد محيى الدين أسماء ثلاثة من هؤلاء الدراويش الذين كان لهم تأثير كبير فى تشكيل ملامح شخصيته اللاحقة حيث استلهم منهم كما يقول ذلك الإحساس الرفيع بالتدين السمح المتفانى فى حب البشر: « ذهنى أفندى»، وأيوب أفندى»، وعثمان أفندى» الذين ظلت صورتهم بجلابيبهم البيضاء عالقة بذهنه طيلة حياتهم.. الأهم من جلابيبهم هو نمط حياتهم فقد كانوا يستمتعون بثلاثة أشياء جميلة هى : التعبد، والقراءة، وخدمة الناس.. يقرأون كثيرا، ويتعبدون فى أناة وبلا تشدد، وبقية النهار يعبدون الله بخدمة الناس، فكان عثمان أفندى الهادئ الأبيض الشعر يقضى وقته يعلم سكان الحى القراءة والكتابة، وآخرون يقدمون خدماتهم المجانية بلا انقطاع للناس، واحد يصلح لهم الساعات مجانا، وآخر يصلح مختلف الآلات، وثالث يخيط الثياب، والكل لا يتقاضى أجرا ،سوى الإحساس بالرضاء الدينى بالتقرب إلى الله عبر خدمة عباده!!.. كل سكان التكية كانوا يصلون معا فى الجامع، فإن تغيب أحد استحى الدراويش من دعوته للصلاة، فقط كانوا يسألون عن صحته: « ولعل المانع خير»، فيسرع الغائب إلى المسجد مع أول أذان!.. .حتى الأذان نفسه كان هادئا وديعا، وكأنه دعوة حانية إلى لقاء حميم!.. وعندما توفى شيخ الطريقة عثمان خالد، عرضت المشيخة على حفيده الذى سمى باسمه : خالدمحيى الدين، وكان فى ذلك الوقت ضابطا بالجيش ،لكنه اعتذر عن قبولها، ليس زهدا فى حياة الدروايش أوانصرافا عنها، ولكن على العكس تماما دليل على أن عبق الدراويش كان قد اجتذبه نحو التعبد فى طريق أكثر رحابة ألا وهو خدمة الوطن والشعب، ولقد بدأ الاهتمام بالسياسة يفرض نفسه عليه وهو لما يزل تلميذا فى التاسعة من عمره يتابع فى اندهاش مظاهرات 1931 ضد الدكتور إسماعيل صدقى الذى ألغى دستور 1923 ويتابع فى الوقت ذاته تلك المناقشات الصاخبة عالية الصوت التى كانت تدور بين والده وبين خاله العائد لتوه من فرنسا بعد الحصول على ماجستير فى الاقتصاد.. والذى كان من أشد الساخطين على صدقى الذى عصف بالدستور والديمقراطية، أما والده فقد كان من المؤيدين لصدقى شأنه فى ذلك شأن سائر المزارعين الأثرياء الذين كانوا يشعرون بالامتنان لما قام به إسماعيل صدقى من إنقاذهم من ديون تراكمت بحيث أصبح من المستحيل سدادها، لكن صدقى قرر تسوية عادلة ومريحة لتلك الديون فأنقذ بذلك أراضيهم من الضياع.. وفى مقابل ذلك كان خاله الشاب المتحمس يتمسك بالدستور ويعتبر انتهاكه معصية لا يغفرها أى إصلاح.. ولقد تركت تلك المناقشات آثارا عميقة فى نفسه، إذ إنها وسعت من آفاق تفكيره من ناحية، ونبهته مبكرا إلى أنه فى مجال السياسة لا يوجد خير مطلق، ولا شر مطلق.. لكن الديمقراطية تظل وحدها فى نهاية المطاف الآلية الكفيلة بتصحيح المسار.. وللحديث بقية.