د. نصار عبدالله يكتب: صدام وأنا.. ومتلازمة ستوكهولم "2"

مقالات الرأي



مازلنا مع كتاب: صدام وأنا.. ومتلازمة ستوكهولم للكاتب العراقى على شاكر والذى عرض فيه جوانب موجعة من ذكريات تجربته الأليمة بل ذكريات تجربة العراق بأكمله فى عصر نظام الرئيس العراقى السابق صدام حسين التى هى للأسف تجربة مكررة فى أكثر من بلد عربى، حيث نجد أن التفاصيل دائما متشابهة ومتقاربة بل تكاد أن تكون هى ذاتها مع تغيير فى اسم البلد واسم الرئيس (أو السيد الزعيم القائد) كما يحلو للبعض خاصة المشتغلين بالتطبيل الإعلامى أن يسموه فى كثير من البلاد العربية المبتلاة أبدا بحكامها.. هنا نتوقف عند ملاحظة أبداها المؤلف فى معرض حديثه عن رحلة استجمام قرر يوما أن يقوم بها إلى عمان لعله يريح أعصابه من المناخ الكابوسى الذى كان يسود العراق بأكمله حينذاك فتوجه إليها ضمن فوج سياحى انطلق من بغداد إلى عمان.. أما الملاحظة التى أبداها المؤلف فتتمثل فى أنه فى العراق كما فى العديد من الدول العربية، من المألوف (بل تكاد تكون قاعدة فيما يقول) إن العاملين فى مجال الخدمات السياحية من رجال ونساء يرتبطون بشكل أو آخر بالأجهزة الأمنية أو المخابراتية!.. ونترك للكاتب أن يحكى لنا فى ضوء هذه الملاحظة بعباراته هو انطباعاته عن الفوج السياحى المتوجه من بغداد إلى عمان، وأهم من ذلك انطباعاته عن برنامج الرحلة السياحية ذاته فيقول: كانت من ضمن فوجنا، وجوه مريبة، أدرك معظمنا منذ البداية أنها عيون وآذان مهمتها التلصص علينا ونقل تحركاتنا وما يصدر عنا من تعليقات إلى دوائر بغداد المتربصة أبدا!.. وفى عمان دعانا المرشد السياحى إلى صالة المطعم لتناول العشاء ومشاهدة العرض الفنى.. حين بدأ العرض، تعالى ضجيج منفر عن آلات فرقة مكونة من عدد من العازفين ومغنى (هكذا فى الأصل والصواب مغن) عراقى شاب كان من أوائل المهاجرين سعيا وراء لقمة العيش فى مرابع عمان الليلية عندما لم يعد العمل فى ملاهى بغداد يطعم خبزا بفعل التدهور السريع لقيمة الدينار.. حاولت أن أشغل نفسى عن الضوضاء بتذوق أصناف السلطات الشامية التى امتلأت بها مائدتنا، لكننى وضعت شوكتى جانبا عندما سمعت لحنا مألوفا كان كفيلا بسد شهيتى عن الطعام تماما!، شعرت بذراع أخطبوط عملاق تلتف حول رقبتى وتعصرها حتى لم أعد أستطيع التنفس!.. الله يخلى الريس.. الله يطول عمره شرع كل من معى من رجال ونساء، بل حتى الأطفال بالتصفيق على الإيقاع الفج، فعدم التفاعل مع مديح القائد كان يعد فى حد ذاته تهمة، أمسكت بالشوكة والسكين وتظاهرت بتقطيع الطعام كى لا يرصد أحد يدىّ وهما متلبستين بجرم عدم التصفيق!.. أليست مفارقة أن يقوم المطرب النازح عن بلده بتمجيد الرجل الذى تسبب بهجرته ؟!.. الفقرة التالية من البرنامج أجابت عن تساؤلاتى، فقد اعتلت خشبة المسرح الصغير فتاة شقراء منحوتة القوام من لبنان وبدأت تردد أغنية رائجة للمطرب العراقى الصاعد (فى ذلك الوقت) كاظم الساهر هى: عبرت الشط، التى تضمنت مقطع: وخليتك على راسى.. صدام على راسى.. صاروخ الحسين على راسى.. صاروخ العباس على راسى.. القدس على راسى!! مثير للحزن كان منظر الغانية، وهى محاطة بمجموعة من السكارى منتفخى الأوداج محمرى العيون تقذف أياديهم أوراق المال فى الهواء لتعود فتسقط على شعرها وتحت أقدامها، بل إن أحدهم قام بدس المال بين ثدييها البضيين أمام أنظار الجميع مقابل أن تعيد له المقطع الذى يذكر الصواريخ التى أطلقها العراق على إسرائيل المرة تلو المرة.. التكرار المستفز للكلمات المتنافرة أصابنى بالغثيان، تركت مقعدى وخرجت إلى الهواء الطلق وتطهير سمعى وبصرى من التلوث الذى أصابهما.. بقيت فى الخارج وحيدا حتى نهاية السهرة التى أبت أن تقتصر على ما حدث فى المطعم، فقد شرع أحد المسافرين معنا فى الصراخ، ملوحا بقنينة شراب فارغة بدا أنه قد أتى على كل ما فيها : أنا من تكريت، بلدة السيد الرئيس القائد المنصور حفظه الله، ورعاه.. إخوتى يحملون أوسمة القادسية وأنواط الشجاعة،...نحن من عشيرة الرئيس، زعيم العراق والأردن والكويت والأمة العربية.. ندمت على المال الذى أنفقته على الرحلة، والجهد الذى بذلته للحصول على رخصة السفر، وتحملى عناء الطريق الطويل كى أجد نفسى فى آخر الأمر فى علبة ليل عفنة تصدح فيها ذات الأناشيد التى جئت فارا منها.