عادل حمودة يكتب: نزار قبانى يعلن وفاة العرب في الذكرى العشرين لرحيله!
موسم القمة العربية وضرب سوريا واحتفال إسرائيل بسبعين سنة على قيامها
السر فى مأساتنا.. صراخنا أضخم من أصواتنا.. وسيفنا أطول من قامتنا
ما دخل اليهود من حدودنا.. وإنما تسللوا كالنمل من عيوبنا
بشار الأسد العلوى حرمه من جنازة رسمية لأنه سنى لكن الشعب تحدى النظام وخرجت الملايين لوداعه ولتثبت أن الحاكم يذهب والشاعر يبقى!
جلودنا ميتة الإحساس.. أرواحنا تشكو من الإفلاس.. هل نحن (فعلا) خير أمة أخرجت للناس.
أكثر من مناسبة سياسية تستدعى تلك الكلمات الحادة التى خرجت بالدم من شرايين نزار قبانى ليتحول بعدها من شاعر الحب والحنين إلى شاعر يكتب بالسكين.
قمة عربية فى الظهران (السعودية) تجاهلت وجودها صواريخ الحلفاء الثلاثة (واشنطن ولندن وباريس) التى أطلقت على سوريا (العربية) فى فجر انعقادها فأصابتها قبل غيرها من الأهداف المرصودة من المخابرات الإسرائيلية.
ولم يكن ذلك مفاجأة، فالعرب تركوا سوريا ذبيحة معلقة فى مسلخ التقسيم تنهشها قوى إقليمية متوحشة فى طهران وأنقرة برعاية موسكو.
وتحدثت القمة علنا عن الدولة الفلسطينية المفقودة بينما اتجهت نيتها لمزيد من التفاهم مع إسرائيل التى حظيت بالقدس هدية على طبق من كريستال أمريكى فى عيد ميلادها السبعين بعد أسابيع قليلة فى منتصف مايو القادم مع بدء صيام شهر رمضان.
وبالطبع لم ينس غالبية المشاركين فى القمة أن يزوروا بيت الله الحرام معتمرين فى ضيافة ملكية ليدعوه سبحانه وتعالى وهم يكشفون رءوسهم أن يمحق الله اليهود ويشتت جمعهم وينصرنا عليهم ولكن ذلك الدعاء الذى نردده منذ مئات السنين فى كل صلاة انقلب علينا فنحن الذين محقنا ونحن الذين هزمنا ونحن الذين تشتتنا.
وفى أحاديث الغرف المغلقة سعى مسئولو الجامعة العربية للحصول على الحصص المالية المتأخرة حتى يضمنوا مرتباتهم العالية ومكافآت تقاعدهم التى تبتلع تسعة أعشار الميزانية تاركة ما تبقى منها فتاتا لأنشطة سياسية وهمية.
ولم يكن ما نحن فيه جديدا على نزار قبانى فقد أكد غيابنا عن الحياة فى قصيدته: متى يعلنون وفاة العرب؟ التى كتبها وهو فى لندن عام 1994 وتنبأ فيها قبل نحو ربع قرن بما حدث فى العراق وليبيا والصومال واليمن وسوريا فهل يمكن أن تكون تلك القصيدة وحدها البيان الختامى للقمة الأخيرة؟ لتناسب الصواريخ التى ستنهمر فوق رءوسنا من أعداء نراهن على صداقتهم ويراهنون على ضعفنا؟
حسب القصيدة يقول نزار قبانى: أحاول رسم بلاد تسمى مجازا بلاد العرب.. سرير فيها ثابت.. ورأسى فيها ثابت.. لكى أعرف الفرق بين البلد والسفن.. ولكنهم أخذوا علبة الرسم منى.. ولم يسمحوا لى بتصوير وجه الوطن.
أنا منذ خمسين عاما أرقب حال العرب.. وهم يرعدون.. ولا يمطرون.. وهم يدخلون الحروب.. ولا يخرجون.. وهم يخزنون الملايين فى بطونهم ولكنهم دائما يشحذون.
أيا وطنى.. جعلوك مسلسل رعب.. نتابع أحداثه فى المساء.. فكيف نراك إذا قطعوا الكهرباء؟
أنا بعد خمسين عاما.. أحاول تسجيل ما قد رأيت.. رأيت شعوبا تظن بأن رجال المباحث.. أمر من الله.. مثل الصداع.. ومثل الزكام.. رأيت العروبة معروضة.. فى مزاد الأثاث القديم.. ولكننى.. ما رأيت العرب.
واعترف شاعر ومثقف سعودى تعلم فى مصر مثل غازى القصيبى بصدق ما فى القصيدة:
نزار أزف إليك الخبر.. لقد أعلنوها وفاة العرب.. ونشروا النعى فوق السطور.. وبين السطور.. وتحت السطور.
سئمت الحياة بعد الرفات.. فهيئ بقربك لى حفرة.. نعيش الكرامة تحت الحفر.
ولكن رغم ذلك منعت القصيدة فى الدول العربية كلها.. لكننى نشرتها فى روز اليوسف.. فإذا بنزار قبانى لا يصدق ما رأت عيناه وأرسل عبر الفاكس رسالة شخصية رقيقة من لندن فى 24 نوفمبر 1994:
أخى العزيز الأستاذ عادل حمودة نائب رئيس تحرير مجلة روز اليوسف القاهرة
شكرا من القلب على احتضانكم لقصديتى الأخيرة (متى يعلنون وفاة العرب؟).
لم يفاجئنى موقفكم الطليعى والكبير والشجاع، فهذا جزء من تراث (روز اليوسف) ومن تاريحها العريق إلى جانب الفكر الحر والكلمات التى لا تساوم.
عندما تقف معى (روزاليوسف) فهذا يعنى أن الدنيا كلها وقفت معى وأن الحرية معى.. وأن الله معى.
وتوطت روابط الصداقة بيننا عبر رسائل الفاكس وفى لقاءات مباشرة جرت فى القاهرة ولندن وباريس وروما شهدت فيها أحزان جراحه النازفة على وفاة ابنه توفيق قبل حصوله على شهادة الطب فى جامعة القاهرة وعلى قتل زوجته الثانية بلقيس الراوى فى تفجير السفارة العراقية على أرض بيروت.
وما إن نجحت القوى المضادة للحرية داخل الصحافة وخارجها فى إبعادى عن روزاليوسف والإجهاز على واحدة من أهم التجارب المهنية حتى وجدت اتصالا تليفونيا من نزار قبانى يدعونى للقاء فى دمشق التى سيعود إليها بعد سنوات طويلة من الغربة قائلا:
تعبت من طول البعاد عن مسقط رأسى فى دمشق القديمة ربما أجد على صدرها الراحة وأنت وأنا نتجول فيها باحثين عن رائحة العروبة المفقودة بعد أن سيطرت الرائحة الإسرائيلية على الهواء الذى نتنفسه من البحر إلى البحر.
أريدك أن تسجل بمشاعرك قبل قلمك تلك اللحظات التى أتمنى أن يطول عمرى بعد ما تعرضت من أزمات قلبية حادة لنعيشها معا، ولكنك ستكتبها وحدك.
وأريد أن أسمع منك لم نجحت خلية سرطانية استعمارية نشطة مثل إسرائيل فى أن تصبح ورما خبيثا فى قلوبنا جميعا نعجز عن إزالته وربما لا نريد الشفاء منه.
لكن القدر لم يمهل نزار قبانى ليعود حيا إلى دمشق فقد رحل عن الدنيا فى الغربة وحيدا حزينا بعد أن رفض الشيوخ فى لندن الصلاة عليه فقد اعتبروه كافرا لا يستحق منهم صك غفران لدخول الجنة مثل باباوات الكنيسة الأوروبية فى القرون الوسطى.
لكن.. الطعنة الأكبر واللكمة الأشد جاءته من دمشق.. مدينته التى كان يكتب حروفها بأوراق الفل والياسمين.
كنت قد سبقته إليها أنا وصديقى رسام الكاريكاتير جمعة فرحات وعندما عرفنا بخبر وفاته تصورنا أن الحشود ستزحف إلى المطار لاستقبال جثمانه، ولكن المفاجأة التى أذهلتنا أن لا أحد سوى وزير الدفاع العماد مصطفى طلاس كان فى استقباله ليخرجا معا فى هدوء من بوابة الشحن الخلفية.
كان ذلك قبل نحو عشرين عاما بعد أيام قليلة من وفاته فى 30 إبريل عام 1998.
ولم يكن من الصعب الحصول على تفسير لما جرى.. فالعائلة الرئاسية (الملكية) الحاكمة عائلة علوية (شيعية) تحكم بقسوة الأجهزة الخفية أغلبية سنية ينتمى نزار قبانى ومصطفى طلاس إليها.
وبشعور تلك العائلة بالتميز لم تجد فى سنية نزار قبانى ما يستحق التكريم قبل دفنه كما حدث مع سعد الله ونوس.
ولا جدال فى أن سعد الله ونوس كاتب موهوب وبارع ومؤمن بالحرية ويعادى الديكتاتورية والفاشية وتجلى ذلك فى مسرحيته «الملك هو الملك» بل أكثر من ذلك بدأ أعماله الفنية بمسرحية «سهرة مع أبى خليل القبانى» رائد المسرح العربى الذى ينتمى لنفس العائلة التى خرج منها نزار ليؤكد أن التعصب المذهبى صفة بعيدة عنه تماما.
لكن بعد وفاته بالسرطان فى مايو 1997 أجلت عائلة الأسد دفنه عدة أيام حتى تجهز احتفالا شعبيا برحيله متصورة أن أهم ما يميزه هو علويته وليس إبداعه.
وجرى تحريض شيوخ المساجد فى دمشق على عدم الصلاة على جثمان نزار قبانى بل أكاد أجزم أنهم تعرضوا لتهديدات بالاعتقال لو لم ينفذوا ما صدر إليهم من تعليمات خرجت من جهاز المخابرات.
وأجبر مصطفى طلاس الذى كان وزيرا شكليا للدفاع على أن يحمل جثمان نزار قبانى فى سيارة سوداء مغلقة إلى مسجد صغير فى حى مئذنة الشمع، حيث ولد ليصلوا عليه فى صمت قبل أن يدفن فى صمت أيضا، ولكن ما إن فتح صندوق السيارة حتى فوجئ النظام بملايين المشيعين فى انتظار الجثمان فى حالة تحد سياسى غير متوقعة انتصر فيها الشاعر على الرئيس.
واصطحبتنى الصحفية السورية سلمى كاركوتلى زوجة الكاتب والسيناريست حكم البابا إلى بيت نزار لنقرأ له الفاتحة هناك ولكنى فوجئت بأن البيت بيع لرجل ينتمى للطائفة العلوية رضخ إلى تحويله أحيانا إلى معرض صور للشيعة فى ذكرى استشهاد الحسين فى كربلاء.
ولم يبق من البيت سوى قصيدة كتبها محمود درويش بعنوان بيت من الشعر بيت الدمشقى:
بلا مكتب كان يكتب.. يكتب فوق الوسادة ليلا.. وتكمل أحلامه ذكريات اليمام.. لم يكن دون جوانا.. تحط النساء على قلبه خدما للمعانى.. ويذهبن فى كلمات الأغانى.. قلت له أنت فى حاجة إلى هواء دمشق.. فقال: سأقفز بعد قليل لأرقد فى حفرة من سماء دمشق.. فقلت: أنتظر ريثما أتعافى لأحمل عنك الكلام الأخير.. انتظرنى ولا تذهب الآن.. لا تمتحنى ولا تشكل الآس وحدك.. فقال: انتظر أنت عش أنت بعدى.. فلابد من شاعر ينتظر.. فانتظرت وأرجأت موتى.
لكن بقى السؤال الذى لم يسمع منى نزار إجابة عليه: لم تكبر إسرائيل ويصغر العرب؟.. لم تتقدم وهم يتراجعون؟.. لم تنتصر وهم ينهزمون؟
وأتصور أن نزار قبانى بعدما شعر وهو يحلق فى السماء من اضطهاد دينى على يد السلطة العلوية قد وجد بنفسه الإجابة.
إن سوريا دولة متنوعة الديانات والمذاهب وتتفرع جذورها إلى أعراق مختلفة فرضت عليها علمانية إجبارية للتعايش فى توحد لم تحققها لها علوية الرئاسة ولو حمت نفسها بجيوش آيات الله فى إيران ولو استسلمت لاحتلال عسكرى روسى ولو هدمت نصف البلاد وقتلت ملايين من العباد.
وتسللت إسرائيل وحدها أحيانا أو بصحبة قطر أحيانا أخرى إلى الثغرات الدينية والعرقية والطائفية التى فتحها بنفسه النظام الحاكم وراحت تغذيها فيما يسمى بحروب المجتمعات حتى نجحت فى تفتيت المجتمع وتقسيمه فى حرب أهلية استمرت سبع سنوات قتل فيها مليون إنسان وهاجر عشرة ملايين فى حالة عربية غير مسبوقة أفقدت سوريا صلابتها وكشفت عوراتها السياسية والعسكرية ونامت الدولة الصهيونية مطمئنة مستقرة، خاصة بعد أن تكرر السيناريو ذاته فى دول عربية أخرى.
وفى الوقت نفسه استقرت الديمقراطية الإسرائيلية وتضاعفت التنمية البشرية والأبحاث العلمية، لتصبح تلك الكتلة السكانية غير المتجانسة دولة حديثة فى سبعين سنة بينما غيرها فى الشرق الأوسط الكبير أو الصغير لا يزال رغم عمره الضارب فى الحضارة عضوا بارزا فى قائمة التخلف.
وعندما يقول نزار قبانى: ما دخل اليهود من حدودنا وإنما تسللوا من عيوننا فإنه كان يعرف الإجابة التى انتظرها ورحل قبل أن يسمعها منى.
إن الحاكم يرحل ولكن الشاعر يبقى.