رامي رشدي يكتب: العاشقان.. فى ليلة أم العواجز
المصريون عشقوا أهل بيت النبى لشعورهم بأنهم كانوا عوضاً عن النبى الذى لم يزر أرضهم.. وأحفاد النبى شعروا بأن حب أهل مصر تعويض عن الظلم الذى تعرضوا له
فى لحظة الضيق، والشعور بأن الأرض ضاقت على بما رحبت، ولا مفر من قدر الله إلا إليه، كانت قدمى تقودنى داخل شارع بورسعيد فى منطقة السيدة زينب، بجوار مسجد أم العواجز، وإذا بشىء يجذب قلبى وروحى ونفسى ووجدانى وجسدى، فما شعرت إلا وأنا استأذن فى الدخول إلى رحاب مسجدها..
وأنا فى داخل المحراب، توقفت للحظات وإذا بى أهرول إلى مقامها، وبمجرد دخولى بقدمى اليمنى انشرح صدرى وزال همى وبمجرد مجاورة قدمى اليسرى لشقيقتها اليمنى، كنت كأننى فى رحاب الإيمان والطمأنينة سيطرت على جوارحى، فزال الهم والكرب كلما اقتربت من المقام خطوة بعد خطوة.
لحظات لا توصف ولا يمكن روايتها.. عندما تأخذ أم العواجز بيدك من ضيق الدنيا إلى زهوة وعطر اليقين والهدوء، عندما تقف بقلبك وجوارحك بين يدى سيدة أهل بيت الحبيب المصطفى، وقتها لن تتمنى نفسك سوى شىء واحد الوقوف بين يدى جد هذه السيدة، وتجد سؤالا يقفز إلى ذهنك ماذا تريد من الدنيا التى نسيتها ونسيت همومها بمجرد تسليم نفسك لأهل بيت النبوة، وتنتابك غيرة من أصحاب الرسول الذين عايشوه وعاصروا، أهل بيته، نحن أقل حظ منهم بلا أدنى شك، وهنا تقف للحظة لا! فالمولى عز وجل أنعم علينا بوجودهم فى مصر وانتشار مساجدهم.
ما بين مرقد الحسين فى الدراسة ومقام السيدة عائشة الذى يبعد عنه بعض كيلومترات، وتفصلها نفس المسافة تقريباً عن قبة السيدة نفسية، التى يفصلها شارع طويل عن بركات وروحانيات السيدة زينب، كل أحفاد الرسول قرروا أن يكونوا بين المصريين الذين قربوهم وعشقوهم وأصبحوا ملاذاً لهم، كيف لا وهم أهل بيت الرسول وأحفاده وفلذات أكباده و«حاجة من ريحته» على أرضهم الطيبة.
الله ذكر اسم مصر فى كتابه الكريم 5 مرات، وقال عنها الرسول إن جنودها خير أجناد الأرض، وأهلها فى رباط ليوم الدين، ويتميز أهلها بأشياء ليست موجودة فى أى شعب بأى أرض فى العالم، يحتفلون بعيد قيامة المسيح عيسى ابن مريم، فى يوم الأحد، وفى اليوم التالى يحتفلون بعيد شم النسيم. وبعده بمولد أم العواجز، ٣ أيام أعياد واحتفالات وروحانيات وبركات من السماء تتنزل على هؤلاء البشر، كلنا ندور فى رحاب الله وفى بركات أحبابه المسيح وأهل بيت النبى، وكلهم يعتبرون عشق المصريين الأول والأخير، نفس الشعور متبادل فالسيدة مريم العذراء، جاءت إلى مصر لتعيش وسط أهلها بعدما ضاقت عليها الأرض بما رحبت، ووجدت بينهم بيتاً وملاذاً وسكناً وطمأنينة، وسار على دربها أهل بيت النبى محمد صلى الله عليه وسلم، فالحكايات والروايات والسير التاريخية كلها تؤكد حكايات العاشقين أولياء الله وأحبائه والمصريون.
كثير منا عشقوا المختارين من الله على الأرض، لكنهم لا يعملون كثيراً ولا يعرفون عنهم قصصهم العظيمة التى تفضح هذا العشق، والتى حاولنا الوقوف على بعضها، لنوثق لهذه الملحمة العظيمة بين العاشقين.
1- رحلة مريم والمسيح لمصر
العائلة المقدسة مصطلح دينى تاريخى، ومن المتفق عليه أن هذه العائلة تتكون من المسيح الطفل وأمه السيدة مريم العذراء، وخطيبها يوسف النجار، الذى ظل وفيا لها من بين بنى إسرائيل، بعد النبى زكريا، ورافق النجار الطفل وأمه فى رحلة للهرب من الملك هيرودس الذى كان يريد قتل المسيح الطفل، فهربت به مريم وخطيبها إلى مصر وخلدت الأناجيل الأربعة هذه الرحلة ووصف إنجيل متى ما حدث مع يوسف بقوله: «إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلاً: قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر، وكُن هناك حتى أقول لك لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه، فقام وأخذ الصبى وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر» متى 2:13.
وجاءت العائلة المقدسة من فلسطين إلى مصر عبر طريق العريش ووصلوا إلى حصن بابليون أو ما يعرف اليوم بمصر القديمة ثم تحركوا نحو الصعيد واختبأوا هناك فترة ثم عادوا للشمال مرورا بوادى النطرون واجتازوا الدلتا مروراً بمدينة سخا ثم واصلوا طريق العودة عبر سيناء إلى فلسطين من حيث أتوا، ويعرف خط سير هذه الرحلة برحلة العائلة المقدسة.
مريم والمسيح عندما ضاقت عليهما الأرض بما رحبت أتيا إلى مصر ليجدا عند أهلها الطمأنينة والسكينة، سائرين على درب الأنبياء إبراهيم ويوسف ويعقوب ومع مرور الزمن بات المسيح والعذراء هما ملاذ المصريين ليوم الدين.
2- أهل بيت النبى يفرون إلى مصر
لم تسجل كتب التاريخ ولا السيرة النبوية أن النبى محمد صلى الله عليه وسلم جاء إلى مصر أو زارها، ولكنها سجلت أحاديث عن حب الرسول لمصر وأهلها وامتداحه جندها وإن لم تتشرف مصر بالحبيب نفسه،، إلا أنها كانت وطناً لفلذات أكباده وأحفاده، فجاءوا إلى مصر حيث استقر رأس الحسين فى القاهرة، رغم أن بعض الروايات شككت فى هذه الحقيقة، ولكن الثابت وفقاً لروايات تاريخية ومؤرخين أن الرأس استقر فى القاهرة فى المقام الحالى بمسجد الحسين الذى بات قبلة القصاد وغاية عشاق أهل بيت رسول الله وعلى مدار العصور ومئات السنين، عشق المصريون سيد الشهداء على مختلف أعمارهم وطبقاتهم ومن منا لم يزر الحسين أو يصلى فى مسجده أو يزر مقامه ليتبارك بأهل بيت النبى.
لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لنفيسة العلوم، السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن على بن أبى طالب، التى ولدت فى مكة فى 11 ربيع الأول عام 145 هجرية، وأمها زينب بنت الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب، وقيل إن أمها أم ولد، وأن زينب أم إخوتها، وانتقل بها أبوها إلى المدينة المنورة وهى فى الخامسة؛ فكانت تذهب إلى المسجد النبوى وتستمع إلى شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه، حتى لقبها الناس بـ«نفيسة العلم» قبل أن تصل لسن الزواج.
تقدّم الكثيرون للزواج من نفيسة لدينها وعبادتها، وقبل أباها بتزويجها من إسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، وتم الزواج فى رجب 161 هـجرية، فأنجبت له القاسم وأم كلثوم.
وفى سنة 193، رحلت نفيسة مع أسرتها إلى مصر، مروا فى طريقهم بقبر الخليل، وحين علم أهل مصر بقدومهم خرجوا لاستقبالهم فى العريش، وصلت نفيسة إلى القاهرة فى 26 رمضان 193، ورحّب بها أهل مصر، وأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم حتى كادوا يشغلونها عما اعتادت عليه من عبادات، فخرجت عليهم قائلة: «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، غير أنى امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولى الناس فشغلونى عن أورادى، وجمع زاد معادى، وقد زاد حنينى إلى روضة جدى المصطفى»، ففزعوا لقولها، ورفضوا رحيلها، حتى تدخَّل والى مصر السرى بن الحكم وقال لها: «يا ابنة رسول الله، إنى كفيل بإزالة ما تشكين منه»، فوهبها دارًا واسعة، وحدد يومين فى الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة، لتتفرغ هى للعبادة بقية الأسبوع، فرضيت وبقيت.
ولمَّا جاء الإمام الشافعى إلى مصر سنة 198، توثقت صلته بنفيسة بنت الحسن، واعتاد أن يزورها وهو فى طريقه إلى حلقات درسه فى مسجد الفسطاط، وفى طريق عودته إلى داره، وكان يصلى بها التراويح فى مسجدها فى رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء، وأوصى أن تصلى عليه السيدة نفيسة فى جنازته، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204، وصلّت عليها إنفاذًا لوصيته، وفى رجب 208، أصاب نفيسة بنت الحسن المرض، وظل يشتد عليها حتى توفيت فى مصر فى رمضان سنة 208، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا، وكان يوم دفنها مشهودًا، ازدحم فيه الناس لتشييعها، وباتت ملاذ القصاد وأصبحت وصية المصريين عند الموت هى صلاة الجنازة عليهم وتشييعهم من مسجد نفيسة العلم والعلوم.
3- ما لا تعرفه عن عشق أم العواجز للمصريين
وإذا كنا بصدد الحديث عن مولد السيدة زينب بنت على، رضى الله عنهما وعشق المصريين لها وعشقها للمصريين فلنا وقفة مع رحلتها إلى مصر، فبعد معركة كربلاء ذهبت السيدة زينب إلى المدينة وهناك أظهر أهل المدينه استياءهم الشديد من يزيد بن معاوية وأتباعه، وكانوا يسمعون خطب عقيلة بنى هاشم السيدة الطاهرة تروى لهم كيف تعرض أحفاد النبى للظلم، فبلغ الأمر إلى يزيد بن معاوية وأحس بخطورة وجودها فى المدينة فأرسل إلى ولاته بالمدينة يطلب من السيدة زينب أن تغادرها وألا تقيم فيها وأن تختار لها مكانا تقيم فيه غير مكة والمدينة فاختارت مصر.
وكان رحيلها إلى مصر هى ومن معها من أهل البيت ومضت فى طريقها إلى هناك واحتملت ما احتملت من مشاق السفر وعناء الطريق صبرت وصمدت حتى يسر الله لها ولمن معها للوصول إلى أرض الكنانة وفى منطقة بلبيس كان أبناء مصر قد جاءتهم الأخبار بأن السيدة زينب ستشرف ديارهم ففرحوا وخرج والى مصر مسلمة بن مخلد الأنصارى ومعه جمع كبير من العلماء والأثرياء والقضاة وأصحاب المكانة فى البلاد فكانوا فى استقبال السيدة زينب عند وصولها فأظهروا من الحفاوة بها والترحيب بمقدمها ما عوضها عن الأهوال التى تعرضت لها، والألم الذى شق قلبها، حيث شعرت بأنه لا يزال بين المسلمين من يعرفون لأهل البيت حقهم.
وسار هذا الموكب حول الضيفة العظيمة يقطع ما تبقى من صحارى حتى وصل قرب مدينة الفسطاط وهناك على شاطئ الخليج كان والى مصر مسلمة بن مخلد قد اتخذ منزلا فسيح الأرجاء ليقيم فيه فقدم منزله هدية إلى السيدة زينب تكريماً لها ووفاء بحقها وصلة لرحم جدها النبى وعزاها مسلمة فى والدها وأشقائها وأبناء عمها، وبكى فبكت وبكى الحاضرون وقالت: «هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون».
ووافق دخول السيدة زينب مصر بزوغ هلال شعبان وكان مر على الحسين 6 أشهر، وأقامت السيدة زينب معززة مكرمة محبوبة من جميع الناس، حيث شعر أهل مصر بأن الله قد أنعم عليهم وأكرمهم حيث خصهم بفيض من الأنوار المحمدية بوجود أحفاد النبى بينهم وكانوا يشعرون بما يشعر به زوار السيدة حتى الآن، بأنهم يجدون فى قلوبهم أنوار تهديهم وتحبب إليهم القرب إلى الله وتعودهم السخاء والكرم الذى كانت تعرف به بنت بنت رسول الله.