د. نصار عبدالله يكتب: صدام.. وأنا ومتلازمة ستوكهولم
المرة الأولى التى سمعت فيها اسم إيران كانت فى منتصف السبعينيات عندما زارها والدى ضمن وفد وزارة الصحة العراقية لحضور مؤتمر طبى هناك، كان الشاه لا يزال فى سدة الحكم فى بلد يرفل بالثراء الذى تجلت مظاهره فى بنيان عاصمته الشبيهة بعواصم الغرب المتقدم.. عاد والدى من سفرته مبهورا بتطور طهران ومحملا بالهدايا والألعاب وآخر إصدارات الغناء الأمريكى الذى لم نكن نمل سماعه أنا وإخوتى.
السنوات التى تلت شهدت ذكر إيران فى العديد من نشرات الأخبار الإذاعية والتليفزيونية، مرة عند توقيع الشاه محمد رضا بهلوى اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين بما يضمن اقتسامهما مياه شط العرب المتنازع عليه لعقود، وأخرى عندما تناقلت وسائل الإعلام صور المظاهرات الشعبية وهى تجتاح شوارع طهران كالطوفان.. الغضب أسفر عن انهيار الحكم الإمبراطورى ووصول رجل ملتح صارم الملامح، يلف رأسه بعمامة سوداء ويرتدى زى رجال الدين زعيما لها.. تلك كانت هى المرة الأولى التى سمعت فيها اسم الخمينى مسبوقا بلقب غريب هو: آية الله.
كانت سنة 1979 سنة فريدة على أكثر من صعيد فقد شهدت بدايتها ما عرف بالثورة الإسلامية فى إيران، كما اجتاحت قوات الاتحاد السوفيتى أفغانستان قبل نهايتها بقليل، فيما شكل منتصفها مفصلا مهما فى تاريخ العراق الحديث لا تزال تبعاته مستمرة حتى اليوم.. كنت مع أسرتى، نتمتع بإجازة الصيف فى ربوع مدينة توركو الفنلندية عندما سمعت حوارا دار بين والدىّ وسيدة عراقية كانت ضمن وفدنا السياحى فى المصعد الذى حملنا إلى المطعم حيث كنا سنتناول وجبة الفطور : هل سمعتما الأخبار على البى بى سى؟ كلا ماذا حدث؟ لقد صار صدام رئيسا للجمهورية.. أجابت السيدة هامسة
الصوت الخفيض والصمت الذى تلاه أثارا فضولى.. جلت بنظرى على وجوه الكبار المحيطين بى فى المصعد علنى أقرأ فى تعابيرها ما يفك ما بدا لى طلسما.. صور السيد النائب.. كانت تحتل الجدران فى مدرستى جنبا إلى جنب مع صور الرئيس أحمد حسن البكر، قلما خلت شاشة التليفزيون فى بيتنا من مشاهد منقولة له وهو يمثل العراق فى المحافل السياسية أو يستقبل الزائرين أو يتفقد أحوال المواطنين، كل شىء كان يمهد لتولى نائب الرئيس مقاليد السلطة، خصوصا أن البكر كان قد بلغ من الكبر عتيا، ولم يكن فى الأصل ذا شعبية كبيرة بين الناس أو حضور ملموس على العكس من نائبه وابن قريته الشاب المهتم دائما بأناقته والقادر على محاورة وسائل الإعلام بلباقة وذكاء ملفتين. فلم الدهشة إذن؟
تذكرت أمرا كان قد حدث قبل سنوات قليلة وأثار فى نفسى حيرة وتساؤلات عديدة.. كان والداى قد عادا للتو من زيارة أصدقاء لهم واستدعيانى إلى غرفتهما.. ظننتهما سيحادثاننى عن دروسى أو أدائى فى الامتحانات، لكن حرصهما على غلق الباب وصوت والدتى الهامس بدا مريبين!.. أنت تحب بابا وماما.. أليس كذلك؟.. أومأت برأسى إيجابا رغم علمى بأن ذلك السؤال عادة ما يتبعه طلب بتقديم تنازلات مؤلمة!.. ما سأقوله يجب أن يبقى سرا بيننا، لم تعد طفلا صغيرا.. صرت رجلا وأنا متأكدة بأنى أستطيع الاعتماد عليك فى حفظ السر. لمعت عيناى للدعوة المفاجئة للولوج إلى عالم الكبار، أومأت بحماس أكبر فى هذه المرة.
فى بيت أصدقائنا سمعنا عن قيام السيد النائب بزيارة بعض المدارس على نحو مفاجئ، سمعنا أنه كثيرا ما يستدعى إليه الشطار من التلاميذ مثلك كى يسألهم عن أهلهم، ما أريده منك هو أن تستقبل: السيد نائب الرئيس بالتصفيق الحار بمجرد أن تراه وأن تقول له: بابا وماما يحبانك كثيرا.. السطور السابقة من كتاب : صدام وأنا.. ومتلازمة ستوكهولم للكاتب العراقى على شاكر الذى صدر مؤخرا من دار الثقافة الجديدة بالقاهرة.. والذى يعرض فيه الكاتب مثالا واقعيا وحيا لما عرف بمتلازمة ستوكهولم تلك الظاهرة النفسية التى يتوحد فيها المختطف بمختطفيه والضحية بجلادها ويدافعون عنه حتى النهاية وللحديث بقية.