منال لاشين تكتب: قديس الصحافة.. لويس جريس
كان يوما صيفيا من يونيو 1985 حينما دخلت من بوابة «روز اليوسف» بقليل من التردد، لأسأل عنه وأتمرن فى مجلة صباح الخير التى يرأس تحريرها. توقعت بعضاً من الأسئلة حتى أصل إليه، ولكننى ما إن قلت اسمى وأننى أريد أن أتمرن وأقابل أستاذ لويس جريس، حتى أشار لى أحد العاملين إلى الأسانير قائلا: الدور السابع.. كنت اخترت المجلة لأنها كانت الوحيدة التى لا تحتاج إلى واسطة أو معرفة أحد الصحفيين لتتمرن أو تعمل بها.
فى الدور السابع سألت سيدة شابة عن مكتب سكرتيرة الأستاذ لويس، فأشارت إلى باب مفتوح فى آخر الممر وقالت لى: دا مكتب أستاذ لويس.. دخلت على المكتب فرحب بى دون أن يعرف حتى اسمى، وأظنه عرف أننى مجرد شابة من عشرات يذهبن إلى مكتبه طلبا لمشورة أو فرصة تدريب.
حينما قلت له: اسمى منال لاشين علق بضحكة وقال لى دا اسم صحفى وبداية كويسة.. تكلمنا لمدة خمس عشرة دقيقة تقريبا، أحسست براحة غريبة وتراجع التوتر والتحفز اللذين كنت أشعر بهما، وخلال اللقاء دخل إلى المكتب أحد السفراء، وكان يرأس تحرير مجلة الدبلوماسيين، وكنت أنا وهو فقط فى المكتب، فوجئت بالأستاذ لويس يقول للسفير: زميلتى منال لاشين.. بحثت عن هذه الزميلة فاكتشفت أنه يقصدنى أنا.. أنا الطالبة بسنة أولى إعلام، والذى يعرفنى منذ 15 دقيقة، ولاحظ الأستاذ لويس ما بى، فقال بصوت أعلى قليلا: سلمى يا أستاذة منال على سعادة السفير.
خرجت من مكتبه وأنا أشعر بأننى أمتلك الدنيا كلها الحاضر والمستقبل، وكنت أريد أن أحكى ما حدث فى مكتبه حتى للناس اللى فى شارع قصر العينى.. نسيت الحر وظللت أتذكر صوته الودود وضحكته الصافية والأهم كلمة «زميلتى منال لاشين».. رددتها واستعدت صوته ألف مرة، وفوجئت بأننى فى نصف شارع الهرم حيث كنت أسكن، فقد قطعت المسافة من شارع قصر العينى إلى نصف شارع الهرم دون أن أدرى أو أشعر بالحر أو التعب.
هذا هو لويس جريس عقله وقلبه ومكتبه باب مفتوح دوما للجميع خاصة الشباب.أى شاب أو شابة لديهما حلم سيجد لدى الأستاذ لويس بابا أو نافذة للوصول لحلمه، وقد بلغ من حماسه للشباب أن أطلق أحد أصدقائه هذه التشنيعة، فقد حضر شاب جامعى يريد من الأستاذ لويس مساعدته فى فتح كشك ليكتسب رزقه، فطلب لويس من الشاب أن يكتب طلبا، وعندما قرأ الأستاذ لويس ما كتبه الشاب قال له: تعرف أنك بتكتب كويس تعالى اشتغل صحفى فى صباح الخير.
وكنت ألاحظ أن الأستاذ لويس طبع المجلة بطابعه، لم تكن فى المجلة أبواب مغلقة إلا باب الأستاذ مفيد فوزى، وحتى باب الفنان الكبير الراحل جمال كامل كان لا يغلق إلا فى أحيان قليلة، ولكنى عرفت فيما بعد أنه حافظ على سمات مؤسسة «روزاليوسف» والعظيمة فاطمة اليوسف التى بعثت بمن يأتى لها بالشاب أحمد بهاء الدين دون أن تعرفه لأنه كاتب جيد.
ولم أكن صحفية مباشرة خلال فترة تدريبى فى المجلة، فى ذلك الوقت كان نصف وزنى كسلاً والنصف الآخر فضولاً للولوج إلى هذا العالم الكبير، ولقاء كبار الكتاب والروائيين والمثقفين، كنت أقضى ساعات ممتعة معهم فى النقاش والحوار، ولكننى أكتشف أننى نسيت أن أحصل على حوار صحفى منهم، وإن كنت قد حصلت على موعد ثانٍ وثالث، ومر نحو عام دون أن أقدم للمجلة تحقيقا أو موضوعا للنشر.
وذات يوم قال لى الأستاذ لويس إننى لم أقدم شيئا للنشر حتى الآن، فوقع قلبى فى قدمى وتوقعت أن تكون نهايتى فى المجلة، ولكننى فوجئت به يكمل حديثه قائلا: خذى الموضوع دا اشتغليه، وكان الموضوع ميدانياً فى الجامعة والشارع، ولكن الأهم أنه كان موضوعاً ضمن حملة صحفية للمجلة، وهكذا أهدانى الطريق إلى الانتظام الصحفى، وبدأت انتظم فى العمل الصحفى بالتزام أكبر للمهنة، وفضول أقل لنجومها ونجوم المجتمع، وبمساعدة الأستاذ لويس تعرفت على أكبر الأسماء فى عالم الكتابة.. أحمد بهاء الدين.. الدكتور لويس عوض.. والدكتور يوسف إدريس ونجوم أخرى لم أكن أحلم حتى بإلقاء السلام عليها.
ومنذ سنوات قابلت الأستاذ لويس فى إحدى المناسبات، فقال لى بصوت خفيض إننى خيبت ظنونه، وأضاف أنه لم يتوقع لى أكون بكل هذه الشطارة، فقلت له إننى أهوى السياسة والاقتصاد.. وهذان الملفان لم يكن لهما تواجد كبير فى صباح الخير، فضحك ضحكته الصافية وقال بلهجة صعيدية: مش كنت تقولى يا منال كنت شفتلك حل.
ولو كتبت آلاف المقالات عن هذا القديس الذى وهب حياته للآخرين، وهذا النجم الذى كانت هوايته وموهبته وحياته فى صنع النجوم لما استطعت أن أوفيه حقه أو أعبر عن جوانب شخصيته الرائعة المتفائلة المساندة والداعمة للجديد وللشباب.
ولكن ثمة جملة قالتها الزميلة ماجدة الجندى وتكشف الكثير والكثير عن الأستاذ لويس جريس.
ففى الاحتفال بتكريمه بعد رحيله عن مجلة صباح الخير قالت ماجدة: الآن أشعر بأننى انتقلت من بيت أبويا لبيت زوجى، هذه الجملة العبقرية تكشف الكثير من صفات وعبقرية الأستاذ لويس.
ولا أظن أن بموته سيرحل عنا الأستاذ لويس، فالمثل يقول: «اللى خلف مامتش»، والأستاذ لويس له أولاده وبناته فى كل مجالات الإعلام والحياة.
ومثل هذا الرجل القديس لا يؤثر فى سيرته الغياب المادى. بل إن غيابه يفضح حضور الكثيرين من الأحياء.