د. رشا سمير تكتب: "كلمات صمتى".. سيرة ذاتية لإذاعية لبنانية فقدت صوتها
لا ندرك قيمة الأشياء إلا عندما نفقدها.. ولا نعرف المعنى الحقيقى للأحداث السعيدة إلا عندما تكف عن الحدوث.. فلا نفهم أبعاد كلمة "المعتاد" إلا عندما يتغير روتين الأيام. نحن البشر، نعرف أن الله أعطانا نعما كثيرة ولا نعرف قيمتها إلا عندما تغيب عنا.. نعرف قيمة الصديق عندما يرحل.. نعرف حلاوة الأشياء عندما نذوق المُر منها.. نُدرك جمال الرواية عندما نصل إلى صفحتها الأخيرة.. نشعر بدفء الجو فقط عندما تتوارى الشمس. هكذا علمتنا الحياة أن قيمتها الحقيقية تنبع من الوجود.. وأن غياب الأشياء هو الإحساس بالفقد الذى لا ندركه والمعانى التى لا نعرفها.
1- من الصخب إلى الصمت
هذا هو المعنى الحقيقى الذى أرادت أن تقدمه بتريسيا حكيم، مُقدمة البرامج الإذاعية اللُبنانية، فى كتابها «كلمات صمتى» الذى كتبته باللغة الفرنسية وصدر عام 2015 عن دار نشر فرنسية بعنوان «Les mots de mon Silence» ثم قررت دار الشروق المصرية أن تُترجمه إلى العربية، ليكون ضمن إصداراتها عام 2018، الكتاب يقع فى 150 ورقة من القطع المتوسط وترجمته إلى العربية الروائية اللبنانية والصحفية بارعة الأحمر ببراعة تُحسب لها.
2- هى بين القدر والقرار
يبدأ الجزء الأول من الكتاب فى يوم 23 سبتمبر، بكلمات هى خُلاصة الفصل الأول، تقول الكلمات: «نحن دائما فى الحياة على مسافة قريبة من العذاب».
تدخل بتريسيا غرفة العمليات التى كانت خطوتها الأولى للعذاب لتقوم بعمل جراحة استئصال الغدة الدرقية وهى عملية ربما تبدو صغيرة لكنها ليست بسيطة.
بين جدران المستشفى رقدت فى السرير تتذكر آخر حلقة لها بالبرنامج وهى تعلن لجمهورها غيابها الاضطرارى لمدة أسبوعين، وهو غياب لم تعتده أبدا فى حياتها الإعلامية الطويلة، إنها تتذكر الكلمات التى اختتمت بها الحلقة وصوتها الرخيم ثم موسيقى الختام التى تخفت شيئا فشيئا حتى تمهد لصوتها أن يعلو فوقها، إنه شعور واحد الذى يلازمها فى نهاية كل حلقة، شعور بالأسى.. بل شىء من الأسى، فجمهورها هو نبض قلبها وهمسها فى أذن مستمعيها هو سعادتها المُطلقة ونجاحها الكبير.
يومها قالت جُملة الختام التى كان نُطقها من أصعب ما يكون: «أحييكم على أمل اللقاء بكم قريبا.. بعد أسبوعين.. إلى اللقاء»، هل كان الأمل وهما؟ أم كان الأمل حُلما؟ أم كان الأمل مجرد جملة قالتها ولم تعرف أن القدر كان يختبئ بين الفواصل؟
3- أين صوتى؟
يدخل الطبيب إلى الغرفة ليطمئن، فتصف بتريسيا تلك اللحظة فى كتابها، وتقول: «يقف الطبيب أمامى ويلح فى طلبه، فأقاوم رغبتى فى الاستسلام للنوم وأبدأ بالرد على أسئلة سخيفة من نوع: ماهو تاريخ اليوم؟ والتعداد حتى رقم عشرة، وبماذا أشعر.. أعرف كل هذه الأجوبة وأظن أننى أجيبه بشكل صحيح، لكنه يردد الأسئلة نفسها بعناد وبطريقة غريبة، وتمضى دقائق طويلة لأدرك أنهم لا يسمعون شيئا مما أقول!».
أين صوتها؟ هل فقدت صوتها؟ هل انقطع جسر التواصل الوحيد بينها وبين جمهورها؟، أشارت للجميع بالخروج، إنها لا تريد أن ترى أحدا، تريد أن تبقى وحيدة.. انسالت الدموع من عينيها بصمت.. إنها تبكى صوتا فقدته، تبكى حياتها وعملها وكيانها.. حتى الشهقات أصبحت صامتة، لم تحاول أن تصرخ، لأن الصُراخ نفسه قد أصبح اليوم تعبيرا أخرس!.
4- الزيف والحقيقة
فى خضم تلك الظروف الصعبة اكتشفت بتريسيا أهمية وجود صديقاتها بجوارها، ريما وأورور ومايا، هكذا تبين لنا الظروف الصعبة والمحن الشديدة الأصدقاء الحقيقيون وتتيح لنا الفرصة الذهبية لحذف الزائفين من حياتنا، تلك هى فى رأيى الحسنة الوحيدة التى نكتسبها من الوقوع فى شرك الأيام واختبارات القدر.
قررت بتريسيا أن تخوض عملية أخرى نصحها بها كبار الأطباء وهى مجرد محاولة لاستعدال الأوتار المشلولة واستئصال الورم لتحرير البلعوم ومحاولة زرع عصب جديد، قررت خوض تلك المغامرة التى أكد لها الأطباء أنها عملية جريئة ولا يمكن لأحد ضمان نجاحها.
دخلت غرفة العمليات لساعات طويلة انتهت بخروجها من المستشفى على جُملة لن تنساها أبدا:
«باتريسيا مازالت شابة وتعرفين أن الطب يتطور بسرعة هائلة، عليك ألا تفقدى الأمل إطلاقا».
5- زمام الحياة
تناقص عدد الأصدقاء، بات خروجها للأماكن المزدحمة وأماكن السهر هو مزيد من الخرس.. لملمت كل شرائطها القديمة التى كانت تحتفظ فيها بالحلقات التى قدمتها فى الإذاعة وقررت أن تلقيها من نافذة السيارة.. آن أوان أن تتحرر من ماضيها وتتعايش مع الواقع الجديد.
كيف تأقلمت بتريسيا مع واقعها الجديد؟ هذا هو الجزء الأهم من سيرتها الذاتية التى اكتسى جزءها الأول بالأسى ورائحة المستشفيات وتفاصيل طبية كثيرة ربما أرادت بها بتريسيا أن تحكى وتحكى، حتى تتخلص من أحداث جثمت فوق صدرها، ثم جاء جزءها الثانى ليتنسم القارئ من بين حروفه رائحة الأمل وقوة المرأة حين تقرر قبول التحدى ومواصلة المشوار.
قررت بتريسيا أن تقبل وظيفة إدارية تلك التى كانت تكرهها من قبل ولكن لا مفر من تغيير الروتين، حتى حبيبها إيدى الذى كان بالقرب منها فى كل الأوقات، خرج من حياتها بقرار منها بعد أن قتل الملل علاقتهما، تقرر بتريسيا من بعد ذلك أن تُدير دفة حياتها، أن تأخذها إلى حيث تريد ولا تنتظر الحياة أن تكون القائد..تشغل نفسها بأشياء جديدة، تمسك بمصيرها، تحيك لنفسها هوية جديدة، قررت أن تعيد اختيار أصدقائها، أن تُعيد تشكيل يومياتها، قررت أن تصبر، أن تتحمل وأن تفكر، أن تتصالح مع ذاتها وحياتها، أن تجد مكانا فى عالمها، أن تختار كلماتها حتى وإن لم تنطقها، أن تبنى حدودا لأحاسيسها، أن تسيطر على جموحها حين تفقد الصبر.
تنتهى قصة بتريسيا بمفاجأة أخرى ولكنها مفاجأة تحمل الكثير من الأمل، لقد أسعدنى الحظ وقابلتها فى حفل أقامه المهندس إبراهيم المعلم منذ أسابيع بمناسبة معرض الكتاب، صافحتنى وابتسمت، فابتسمت لها، وتابعتها بعيناى وهى تتنقل بخفة الفراشة فى المكان، والحقيقة أن هناك رائحة قوية لا يخطؤها أبدا من يقترب منها، تلك الرائحة هى بكل بساطة.. رائحة الأمل.