أحمد سامي يكتب: بلطجية الأسفلت.. فيها حاجة "نتنة"!
"ري ري ري ري ري ري.. يأ يأ يأ يأ يأ يأ يأ يأ"، "أديك في السقف تمحر أديك في الأرض تفحر"، "تلبس ضيق وأنا ركبي تزيق"، "زقه زقة واطلع اجري هو توك توك وشه فقري".. كوكتيل أغاني شعبي، من أساسيات جمهورية سائقي سيارات الأجرة، وركن من أركان تلك المهنة، اصطباحة تُكَيف دماغهم، لا أعرف حقيقة ما تفعله بهم، تجد معظمهم يحفظ تلك الأغاني، عن بكرة أبيها، من أول كلمة في الأغنية إلى آخرها.
في أي وقت يستمعون إلى تلك الأغاني، صباحًا وظهرًا ومساءً، لا مراعاة في ذلك، لصداع تعانيه بسببها أو امتعاضك منها، لا تثمن ولا تغني من جوع، تأتي من "خرارة" المستشار مرتضى منصور، الذي تحدث عنها مؤخرًا، لا يعني السائق، الذي يرفع صوت الأغنية، إلى أعلى مستوى له - وتجده يضع مكبر صوت كالذي يستخدم في الأفراح في مؤخرة السيارة - رجلًا مُسنًا أو امرأةً، يتأذى كل منهما من صوت تلك الموسيقى الرديء، وتكاد تنفجر الرؤوس من هذا الصوت الشاذ الصاخب، الذي يكاد يصل إلى بُعد كيلومترات.
بصوت لا يكاد يسمعه أحد بسبب الضوضاء، وهو في الحقيقة أعلى مستوى وصلت إليه سيدة ستينية، تمسك بعصى تستند عليها في أثناء المشي، تخط على وجهها ملامح الإرهاق: "وطي الصوت دا يابني الله يكرمك، دماغي هتفرقع"، لا يلتفت إليها السائق مع أنه رآها في المرآة، تحدثه، مضى السائق والموسيقى ما زالت مرتفعة "زقه زقة واطلع اجري، هو توك توك وشه فقري"، والركاب الآخرين، منهم من هو منكفئ على نفسه، يسد آذانه لا يعبأ بمعاناة السيدة، ولسان حاله "خليني في حالي مش عايز كلمتين من السواق", وآخر سارح مع نفسه في الطريق.
تنادي السيدة مرة أخرى: "يابني وطي اللي أنت مشغله ده وخلي الصوت على قدك إحنا مش فاهمين اللي بيغني ده ومش عايزين نسمعه"، ويبدوا أن الجملة استفزت السائق، ما دفعه إلى التوقف فجأة، والتفت إلى السيدة، متجهمًا عبوس الوجه "فيه إيه يا حاجة.. خدي فلوسك وانزلي"، كلمة صعقت أُذناي عندما سمعتها، كيف لهذا "الأخرق" أن ينطق بها في وجه سيدة في عمر أمه، لا حول لها ولا قوة؟ هل من وجهه الذي يخطه جرح قطعي من سلاح أبيض "قرن غزال"؟ أم من الهالة السوداء أسفل عينه، من آثار المخدرات التي يتعاطها؟
نظر له الركاب، ويا ليتهم ما تحدثوا: "معلش يا اسطى امشي خلينا نوصل بيوتنا"، يستعطفون السائق حتى يكمل مشواره، دون أن ينصروا العجوز، التي أوقن أنها تريد أن تنعت كل واحد منهم بـ"يا نطع منك ليه"، شابٌ غيور على العجوز تدخل وأنا معه، وعنفنا السائق على ما فعله، وهددناه بتسليمه إلى كمين المرور، الذي يوجد في الطريق، وهنا هدأت نبرة صوته وخفض صوته، وبدأ يستجيب لطلب السيدة، وخَفَضَ صوت الموسيقى.
تساؤلات عِدة تطرح نفسها هنا.. لماذا تجرأ هذا السائق على هذا الرد مع السيدة؟ هذا الفعل يتكرر كثيرًا من معظم السائقين إلا من رحم ربي، هل هو مسنود؟ أم له أحد في إدارة المرور يتعامل معه؟ أم هي الأخلاق المفقودة، والقيم التي أصبحت سرابًا؟ أم هل هو خوف ورعب يكبر بداخلنا من قول كلمة حق في وجه أي أحد كان، حتى لو كان بلطجيًا في زي سائق سيارة أجرة؟ أين وزارة الداخلية والإدارة العامة للمرور من تلك القاذورات التي تؤذي كل من يتعامل معها؟ أين الرقابة الرادعة لهؤلاء المتيورين الذين لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذِمة؟.
مواقف كثيرة يتعرض لها معظمنا مع سائقي الميكروباص، ظاهرة أصبحت مؤرقة، كل من هب ودب أو عاطل أو بلطجي أو أرباب سوابق هارب، تجده يقود سيارة متهالكة في منطقة شعبية، يتحكم في مصير مئات الركاب يوميًا، يقود بتهور، يزعج الجميع بأغانيه الهابطة التي يستمع إليها، ويؤذي الركاب ببذائته.
نسعد كثيرًا، عندما نجد سائقًا بشوش الوجه خفيف الظل، "ابن نكتة" يستمع إلى أم كلثوم أو عبد الحليم وكاظم الساهر أو عمرو دياب، يُقُسِّم وقته، يبدأ يومه بقرآن كريم، ووسطه بأغانٍ لشرين وعمرو دياب وآخره بأم كلثوم وعبد الحليم ووردة - نعم هناك من يقضي يومه بهذا الشكل - يقف بالسيارة إلى أن ينتهي الراكب رجلًا أو سيدة كبيرًا أو صغيرًا، من النزول، يتسامح مع من لا يوجد معه أجرة، ويوصله إلى مكانه الذي يريد، تحتفظ به في ذاكرتك، مهما طال الزمن وهم كُثر ولكن السواد الأعظم من النوع غير المأسوف عليه.
هذه الظاهرة آن الآوان للتعامل معها، أمنيًا واجتماعيًا ونفسيًا، بقوانين تمنع هولاء السائقين من القيادة إلا بعد التثبت جديًا من أنهم أصبحوا مؤهلين للتعامل مع البشر بآدمية، ومعالجتهم نفسيًا وأخلاقيًا لتصحيح مفاهيمهم عن احترام الآخر.