الرجوع إلى الحق فضيلة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير الورى وسيد البشر محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار ما تعاقب الليل والنهار، صلاة وسلاماً أبديين متعاقبين ما دامت السماوات والأرضين، أما بعد:
فالإنسان بشر، يعتريه الخطأ والنسيان، والضعف والقوة، ويقع منه الخطأ والمعصية، وليس ذلك عيبا، ولكن العيب هو التمادي فيه، أما إذا عرف الحق ورجع إليه فهذه منقبة له، لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (رواه ابن ماجة والدارمي وحسنه الألباني).
والمطالع لسير السلف الصالح رضي الله عنهم يجدهم ممن قلَّت أخطاؤهم، ومع ذلك فهم أحق الناس بأن يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، هذه المبادرة إلى التوبة، وتلك المسارعة إلى الرجوع للحق، هي ولا شك خير من التمادي في الباطل استجابة لأهواء النفوس، ونزعات الشياطين، وتكبراً عن الاعتراف بالخطأ لاسيما عند الخصومات.
اختلاف الطبائع عند كثير من الناس:
كثيراً ما تكون الطبائع التي لم تُهذّب سبباً من أسباب زلة القدم، والوقوع في بعض الخصومات، والجدال، ومن المعلوم أن طبائع الناس وأخلاقهم تختلف اختلافاً كبيراً بيِّناً، فمنهم السهل ومنهم الحزن، ومنهم المتواضع ومنهم المتكبر، ومنهم سريع الغضب قريب الرجوع إلى الحق، فهذه بهذه، ومنهم من يكون بطيء الغضب بطيء الفيئة فهذه بهذه.
لكن مما لا شك فيه أن خيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئة، الذي لا يكاد يقر بخطأ، أو يعترف بذنب، فيبدي الأسف، أو يبادر بالاعتذار، فنفسه الأمارة بالسوء قد غلبته وقهرته فلم تدع له مجالاً لسرعة الرجوع إلى الحق.
أخي في الله: اضبط عواطفك، وعد إلى الحق بسرعة، فحبل الخيرية بيدك أيها المؤمن، وما عليك إلا أن تضبط عواطفك فلا تغضب ولا تسيء، وإن لم تتمالك نفسك فلا يطل عليك الأمد، ويتراكم على قلبك الران، وإنما تفيء إلى دائرة الحق بسرعة، وترجع إلى جادة الصواب على عجل.
ولم يخل مجتمع من المجتمعات من الخصومات والجدل، والنزاع مع خلق الله عز وجل، قد يكون مع أهله وزوجته وأبنائه، أو مع جيرانه، فعليه أن يلزم الحلم والصفح فإنهما صفتان عظيمتان، وقد امتدح الله عز وجل العافين عن الناس فقال: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، وقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى: 40]، وتعرض الأعمال يوميّ الاثنين والخميس فيغفر لكل مؤمن إلا المتخاصمين لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" (رواه مسلم).
والمتوقع من المؤمن الصادق أنه يسرع في الرجوع والعفو والصفح، ويسابق إلى الصلح، أما من يلجُّ في الخصومة، ويغرق في التمادي فقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (البخاري ومسلم)، وفسره الإمام النووي رحمه الله فقال: "(الألد) شديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، (الخصم) الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق، أو إثبات باطل".
بل إن من صفات المنافق أنه: إذا خاصم فجر لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (البخاري ومسلم)، والفجور الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وكم يكون عظيماً ذلك الذي يذل للمؤمنين، ويؤوب إلى الرشد، ويعجل إلى ربه، ويرجع ليرضى عنه.
ولقد ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مثلاً رفيعاً في سرعة الفيئة حين علم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقة أبي بكر كان قد شارك في اتهام ابنته السيدة عائشة رضي الله عنه بحديث الإفك، فأقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ}[النور: 11] العشر الآيات كلها في براءتي، فقال أبو بكر الصديق - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه -: "والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة"، فأنزل الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى}[النور: 22] الآية، قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها عنه أبداً" (البخاري).
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل:
وليس العيب الوقوع في الخطأ إذ "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطاءين التوابون"، وإنما تكمن المصيبة في الإصرار على الخطأ، والتمادي في الباطل، مع أن أبواب الرحمة مُفتّحة تدعونا لسرعة التوبة فعن أبي موسى رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها" (مسلم)، وتستطيع تجاوز العقبة بأن تكون صريحاً مع نفسك، وتعترف بخطئك، وهذه بداية طريق التوبة والرجوع إلى الله، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، وإذا كان ربنا يدعونا إلى سعة رحمته، ويقابل ضعفنا وإساءتنا بإحسانه، فما الذي يؤخرنا عن إصلاح أنفسنا، وما الذي يحول بيننا وبين الرجعة السريعة، والتوبة النصوح؟ وقد جاء في الحديث القدسي الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". (البخاري).
أيها العبد المؤمن بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، وإياك ثم إياك والتسويف.
إن الذي يحول دون التعجيل بالتوبة هو الوقوع في قيد الإصرار، ولقد بوب الإمام البخاري رحمه الله أحد أبواب كتاب الإيمان بقوله: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وما يُحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135]"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على هذا الباب: "وكأن المصنف لمّح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعاً قال: "ويل للمصرّين الذي يصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون" أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه، ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره"، وصورة الإصرار هي العزم على معاودة الذنب، وعدم الإقلاع بالتوبة إلى الله منه، والله أعلم.
فهل يختار المؤمن مصير الويل والهلاك أم يقاوم هواه ويستعلي على نزوات الشيطان لينطلق من قيدها ساعياً إلى رحمة الله؟ فإذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر؛ لعل عملك يشهد لك بالسرعة في طاعة الله، وإذا أخطأت في حق أحد فبادر بالاعتذار، قبل فوات الأوان، وقبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، عند ذلك لا ينفع الندم قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ}[الواقعة: 83-85].
أخي في الله: أما ذكرت أنك ميت، وأن الموت لا مفر منه.
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمـل آمـالاً و نبغي نتاجها *** وعلَّ الـردى عمَّا نرجيه أقرب
إلى الله نشكـو قسوة في قلوبنا *** وفي كل يوم واعظ الموت يندب
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.