عادل حمودة يكتب: فى ذكرى ثورة وصفت بالعورة والهوجة والضجة.. مؤرخ أمريكى يفصص نظم الحكم المؤبدة فى السلطة
مراسل ألمانى يقول: العرب يعشقون هذه النظم ونادمون على إسقاطها ومستمرون فى إنتاجها
مبارك حرص على شخصنة السلطة والتأكيد على أنه لا يمكن الاستغناء عنه
كانت الدول العربية الوحيدة التى تنفرد بظاهرة جمهوريات الحكم المؤبد، فالرؤساء الذين يعتلون السلطة لا يتركونها بل أكثر من ذلك سعوا إلى تحويلها إلى ما يشبه الملكية بتوريثها أبناءهم مثلما نسب إلى حسنى مبارك فى مصر ومعمر القذافى فى ليبيا وعلى عبد الله صالح فى اليمن، كما فعل حافظ الأسد فى سوريا.
ولفتت هذه الظاهرة غير المسبوقة انتباه رودجر أوين وهو مؤرخ أمريكى شهير متخصص فى تاريخ الشرق الأوسط ويقوم بتدريسه فى جامعة هارفارد فراح يدرس أسبابها ومظاهرها وخصائصها بجرأة عملية لم يصل إليها أحد قبله.
لكنه قبل أن ينشر كتابه فى نهاية ديسمبر 2010 حتى بدأت رياح الغضب لتعصف بالرئيس التونسى زين العابدين بن على وسرعان ما وصلت إلى مصر ومنها إلى سوريا وليبيا واليمن ليتأكد دون شك أن أنظمة الحكم شبه الجمهورية أكثر عرضة للضغوط الشعبية مما كان متصورا فيما قبل.
لم يتردد أوين فى تعديل كتابه الحكام العرب مراحل الصعود والهبوط بعد موجة الزلازل التى أسقطت عروش أولئك الملوك غير المتوجين.
على أن أوين اهتم أكثر بتشريح طريقة حكمهم ونقاط قوتهم وثغرات ضعفهم قبل أن يتناول كل نظام من أنظمتهم على حدة.
حصلت معظم الدول العربية على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية لكن شرعية النظم التى حكمتها أخذت تقل بسبب هزيمتها فى حربها مع إسرائيل عام 1948 وخوفها من إعادة احتلالها كما حاولت بريطانيا وفرنسا فعله فى مصر بشن حرب عليها عام 1956 وكان نتيجة ذلك إحساسا حادًا بالاضطراب الأمنى داخليا وخارجيا ومخاوف من ضغوط خارجية اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا وهو ما منعها من فرض نظام سياسى يتمتع بالشرعية الحقيقية.
فى عام 1954 تحدث عبد الناصر عن مصر الحرة القوية وشعبها الذى أصبح سيد مصيره لكنه فى الوقت نفسه سعى إلى السيطرة على الحكم بأساليب أمنية متطورة وقوانين سياسية صارمة وقوات مسلحة قوية وقادرة ومؤسسات إعلامية حكومية موجهة ومؤثرة بجانب سلع وخدمات مدعمة.
وعندما سئل صدام حسين عن القانون أجاب: القانون هو الورقة التى أكتبها.
وفى صدمة هزيمة يونيو 1967 اعترف عبدالناصر بأن سيادة القانون كانت مجرد ثرثرة لأن البلد مفيهاش قانون وشكك فى صحة تقارير الأمن وأكد أن الشعب خايف ولا أحد يجرؤ على الكلام ووصف المعارضة فى مجلس الأمة بأنها هزيلة وطالب بمجتمع مفتوح يتجاوز ما وقع فيه نظامه من أخطاء.
لكن من حكموا بعده لم يستفيدوا من أخطائه التى وقعت بل عمقوا نظام الحكم الذى أرسى قواعده.
اعتبر السادات الشعب عائلة واحدة ونصب نفسه كبيرا لها مما جعل معارضيه فئة ضالة متمردة على القيم المصرية.
ورفع مبارك الميزانية الرسمية للأجهزة الأمنية من 3.5 بالمائة فى عام 1987 إلى 4.8 بالمائة فى عام 1997 مما رفع نسبة رجال الشرطة بين موظفى الحكومة من 9 إلى 21 بالمائة وفى عام 2006 وصلت الميزانية الأمنية إلى 1.5 مليار دولار وهو مبلغ يفوق ما خصص للصحة.
ومنح مبارك القوى الأمنية حرية مطلقة فى التصرف كما تشاء باستمرار حالة الطوارئ التى تجرم الإضرابات والتظاهرات وتراقب الصحف وتغلقها وتعتقل الأشخاص دون تهمة محددة وتعذبهم وتهدد عائلاتهم إذا ما اشتكوا للقضاء.
ومثل عبد الناصر والسادات حرص مبارك على شخصنة السلطة والتأكيد على أنه لا يمكن الاستغناء عنه ووحدت أجهزة الدعاية بينه وبين الأمة ليصبح النقد الموجه إليه إهانة لها.
وأحاطت السرية حياة الرؤساء وطريقة ممارستهم للسلطة مما صعب تقييم تصرفاتهم الشخصية وأساليبهم السياسية والإدارية وميولهم الخاصة ومدى نفوذ العائلة والحاشية وما يراه الناس منهم هو فقط ما سمحوا به.
وأكثر المؤسسات سرية هى رئاسة الجمهورية حيث ينفرد الرئيس باتخاذ القرارات فليس بين رجاله من يقدر وحده عليها.
ويعمل الرؤساء العرب فى مكاتبهم ساعات طويلة ولكن مع تقدم السن فضلوا مثل مبارك تفويض شئون حكوماتهم إلى آخرين مكتفين باتخاذ القرارات بالغة الأهمية بوصفهم الأوصياء على البلاد وإن ارتدى بعضهم ملابس مبهرجة من تصميمهم مثل السادات والقذافى فى مناسبات عامة يحولونها إلى عروض مسرحية.
ولو كان عبد الله صالح استخدم ثلاثين من أقربائه للسيطرة على الجيش والأمن والميزانية فإن السادات وبورقيبة وبشار الأسد شجعوا زوجاتهم على القيام بدور فى الحياة العامة يقع ما بين دور الملكة فى بريطانيا ودور السيدة الأولى فى الولايات المتحدة للتدليل على وجود مجتمع مدنى حيوى يهتم بحقوق المرأة.
لكن حافظ الأسد ومعمر القذافى وعمر البشير وعبد الله صالح أبقوا زوجاتهم بعيدا عن العيون وبرزت زوجة واحدة كأكبر سيدة أعمال فى تونس هى زوجة زين العابدين بن على التى امتلكت وأدارت الشركات المؤثرة والحاكمة فى اقتصاد البلاد.
ولعب الأبناء أدوارا مهمة فى الحكم سواء أكانوا خلفاء محتملين لمنصب الرئاسة (مصر وليبيا وتونس واليمن) أم قياديين حزبيين (مصر وتونس) أم جنرالات موالين فى الجيش والأمن (ليبيا واليمن).
وخضع الأبناء لفترة اختبار لتحديد صلاحيتهم للمناصب التى رشحوا إليها فلم يكن علاء مبارك مناسبا لخلافة أبيه ولم تكن مؤهلات عدى صدام حسين كافية لتوليه قيادة الجيش لكن آخرين مثل جمال مبارك أصبح وريثه المحتمل وقد لعب دورا ثانويا فى إدارة الدولة راح يتزايد بتقدم العمر بوالده.
وعوضت عائشة القذافى غياب أمها لتلعب دورا مؤثرا فى الجمعيات الخيرية التى أنشأتها سرعان ما امتد إلى قطاعات سياسية أخرى.
حسب برقية مسربة من السفارة الأمريكية فى طربلس (مايو عام 2006) تتحدث عن طريقة عيش القذافى فإن جميع أبناء القذافى ورجاله المفضلين يحصلون على دخول ثابتة من شركات النفط وشركات الخدمات البترولية المتفرعة منها.
وفى مصر بذل رجال الأعمال الجدد جهودا حثيثة لإفساد أفراد العائلة الحاكمة فى حالة لم تخف على أحد تحالفت فيها الثروة والسلطة واقتسمتا الغنائم معا.
وفى سوريا وجد بشار الأسد فى ابن خاله رامى مخلوف ظهيرا ماليا يدعم حكمه فمنحه شبكة الهاتف المحمول (سيرتيل) بجانب شركات للطيران والتشييد والخدمات المصرفية وتجارة التجزئة والأهم أن لا شركة أجنبية تقدر على دخول السوق السورية إلا بموافقته ومشاركته.
وتلاعب مخلوف بالقضاء واستخدم مسئولى المخابرات فى ترهيب منافسيه فى الأعمال وفى 10 مايو 2011 فرض عليه الاتحاد الأوروبى عقوبات تمنع التعامل معه بعد أن استخدم أمواله فى ضرب المتظاهرين ضد النظام.
لقد رد مخلوف الجميل للأسد وأنفق بعضا من أرباحه لقمع الثورة التى انفجرت فى طول البلاد وعرضها على عكس ما حدث فى مصر، فقد تخلت الرأسمالية الطفيلية عن مبارك رغم أنه ولى نعمتها وكثير من أساطينها لم يكن ليملكوا شيئا قبل أن يتولى الحكم.
لكن فوق تربة عفنة من الفساد سعت النظم العربية المؤبدة إلى توفير شرعية دستورية وهمية لها عبر صناديق انتخاب مشكوك فى نزاهتها لتظهر اعترافها بإرادة الشعب بجانب دعاية مكثفة تروج لنمو فى الاقتصاد والاستهلاك والخدمات ودعم السلع الأساسية متجاوزة التضخم والبطالة والأمية والتسرب من التعليم والعشوائيات وزيادة نسب الفقر.
ولو كانت الدساتير وضعت لتبقى وصيغت للحد من سلوكيات الحكام، فإن ذلك لا ينطبق على العالم العربى حيث تكتب الدساتير من أجل التثبت أن الرئيس يمتلك وحده السلطة العليا.
لقد تغير الدستور فى سوريا ليرث بشار الأسد والده.
وفى مايو من عام 1980 قدم السادات رشوة سياسية للتيارات الدينية الصاعدة بأن أدخل نصا على الدستور يجعل الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للقوانين وفى المقابل عدل نص المادة 77 التى كانت تقيد حكمه بمدتين رئاسيتين ليصبح من حقه أن يظل حاكما حتى آخر يوم فى حياته.
لكن من سوء حظه أن التنظيمات الدينية المسلحة التى احتضنها وشجعها اغتالته بعد شهور قليلة من تعديل الدستور فلم يستفد منه سوى خليفته مبارك الذى ظل فى الحكم ثلاثين سنة ولم يتردد فى القول بأنه سيظل رئيسا حتى آخر نفس فى صدره.
على أن الخبراء الذين درسوا التجربة السياسية المصرية ومنهم كيرك بياتى يرون أن تركيز السلطة فى يد الرئيس بدأ فى عهد عبد الناصر الذى كتب دستور 1956 فى مكتبه قبل عرضه على استفتاء شعبى.
نتيجة تلك الخطوة تأسس نظام حكم فردى تضاعف بموجبه جهاز الدولة التى سيطرت على الموارد القومية بعد أن حلت المؤسسات الخاصة والمستقلة وتوسعت حدود القطاعين الحكومى والخاص ليصبحا مصدر التشغيل الأهم للمصريين الذين لم يكن أمامهم سوى التنازل عن حريتهم السياسية مقابل لقمة العيش وتوفير الخبز والزيت والسكر والوقود بأسعار رخيصة مدعمة.
وبالقضاء على الأحزاب السياسية أصبحت عضوية التنظيم الواحد (الاتحاد الاشتراكى) شرطا لدخول النقابات المهنية والعمالية والغرف التجارية مما أجبر الجميع على تبنى خطا أيديولوجيا واحدا تحدده الدولة فاختفت المعارضة خوفا من الأجهزة الأمنية أو خوفا على مصالحها الاقتصادية.
وفوض عبد الناصر صديقه المقرب عبد الحكيم عامر لقيادة الجيش وفشل فى إزاحته منها عام 1962 بعد أن ثبث عجزه.
حاول عبد الناصر إعادة الجيش إلى الرئاسة بتكوين مجلس رئاسى يدير البلاد إدارة جماعية لكن المحاولة فشلت بتقديم عامر استقالته، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه وكان الثمن هزيمة عسكرية ساحقة بعد خمس سنوات قلبت كل الموازين داخليا وخارجيا.
لكن ظلت تلك التجربة المؤلمة نصب أعين خلفاء عبد الناصر فلم يضعوا قيادة الجيش إلا فى يد من يثقون فيه والأهم أنهم كانوا قادرين على تغييره إذا ما أحسوا بالخطر منه.
لقد أصدر السادات قرارا بأن يكون المشير عبد الغنى الجمسى وزيرا للدفاع مدى الحياة لكن القرار لم يعش طويلا وهوجم الرجل وضرب على رأسه فى ظروف غامضة.
وعندما شعر مبارك بتصاعد شعبية المشير عبدالحليم أبوغزالة سارع بتنحيته عن منصب وزير الدفاع وعينه مساعدا له لا تزيد مهامه عن حضور الجنازات ونقل الرسائل لدول أخرى وسرعان ما اختفى حتى توفى بالسرطان.
لكن نجاح مبارك فى إقالة أبوغزالة لم يتكرر مع وزير دفاع أشد ولاء له هو المشير حسين طنطاوى الذى رفض بعد ثورة يناير منصب نائب رئيس جمهورية ومنصب رئيس حكومة ووجد فى قيادته للجيش قوة أكبر مما تمنحها المناصب وفى تلك اللحظة تأكد لمبارك أن أيامه معدودة فى الحكم خاصة أن دبابات الحرس الجمهورى المكلف بحمايته كتبت عليها عبارات واضحة تطالب بسقوطه فلم يأخذ وقتا طويلا ليتخذ قرار التنحى.
أكثر من ذلك رفض طنطاوى خروج مبارك من مصر مثل بن على بل وقدمه هو وابنيه ورجاله إلى محاكمات سعى بها إلى إرضاء الثوار فى الميدان بجانب الإخوان والأمريكان.
لقد خذل الجيش مبارك رغم جهوده فى ضمان الولاء له بزيادة الإنفاق العسكرى مما زاد من الديون الخارجية التى أعفيت منها مصر بعد مشاركتها فى حرب تحرير الكويت.
لكن ما خذله أكثر كان سياسة التوريث التى بدأت همسا بعد حادث الإغماء الذى تعرض له مبارك وهو يلقى خطابا فى مجلس الشعب عام 2003 فيومها أصبحت خلافة الرئيس مسألة ملحة.
لقد بذلت محاولات مضنية لضمان كسب قادة الجيش إلى جانب توريث جمال مبارك الحكم ومثال ذلك إجلاسه بين الجنرالات فى أثناء إلقاء والده خطابا أمام الجيش فى عام 2007 بجانب إقناع عمر سليمان مدير المخابرات بأن يكون شاهدا فى حفل زواجه الذى جرى فى العام نفسه.
على أن ذلك كله لم يوقف مسيرة الثورات التى أسقطت نظم الحكم المؤبدة لتفتح ذراعيها لنظم ديمقراطية حقيقية سبقتها إليها أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا ولكن تلك الثورات تعرضت لانتكاسات حادة جعلتها تأكل أبناءها قبل أن تأكل نفسها.
أمام 200 شخصية مميزة تسلم مارتين جيلين جائزة فرانز هيتسا الصحفية التى تقدمها الأكاديمية الكاثوليكية فى برلين بعد سنوات طويلة من عمره قضاها مراسلا لصحف ألمانية وسويسرية ونمساوية وعاش منها هو وزوجته عشر سنوات فى القاهرة.
تحدث الرجل وهو يتألم عن ثورات الربيع العربى التى عاش تفاصيلها لحظة بلحظة وشدت انتباه العالم، ثم سقطت فى تراجيديا لا نهائية من الحروب والإرهاب والعنف وفقدت كل الآمال التى كان يعتقد فيها أن الدول العربية ستحقق الديمقراطية فلم تقفز ولو واحدة منها إلى التقدم والتطور والحرية والتعددية، وإنما انزلقت المنطقة بأسرها إلى دوامة هبوط مدمرة خاصة فى سوريا والعراق رغم ما تميزت به من تاريخ وثقافة وحضارة.
بل أكثر من ذلك أثبتت المنطقة أنها مستمرة فى تكوين نظم الحكم المؤبدة فى السلطة وأكبر دليل على ذلك أنها ندمت على إسقاط الدفعة السابقة من هذه النظم وتمنت استمرار رموزها ولو بقوا 100 سنة فى الرئاسة.