عادل حمودة يكتب: شهادات القهر والفقر فى إيران
أجبروا أهم ناقد سينمائى على أن يأكل فى الوعاء الذى يقضى فيه حاجته!
فرضوا على صحفى معارض أن يكرر ما يحدث بينه وبين زوجته لفظا وصوتا!
نصبوا على 150 عائلة فى مشروعات إسكان وهمية أدت إلى إفلاس عدة بنوك!
حرق صورة المرشد الأعلى للثورة ودهسها بالأحذية فى المدن المقدسة يعنى أن النظام فقد شرعيته قبل أن يفقد صلاحيته
تعنى كلمة «سينى» فى اللغة الفارسية «النهد».. ولكن.. الحكومة الدينية المتشددة فى إيران خلطت بينها وبين كلمة «سينما» فتصورت أنهما معنى واحد فاعتقلت واحدا من أهم النقاد فى البلاد هو سياماك بوزاند بتهمة الترويج للإباحية والدعارة وإفساد الشباب.. وبسبب علاقته بنجوم هوليوود أضيفت إليه تهمة التجسس لصالح المخابرات الأمريكية.. وصنف عدوا خطيرا للثورة الإسلامية.
وفى السجن أجبروه على أن يتناول الطعام فى الوعاء الذى يقضى فيه حاجته.. وتحت وطأة تعذيب لا يحتمل اعترف بكل الاتهامات الملفقة التى أملوها عليه.. نشرتها صحيفة «كيهان» التى يعين المرشد الأعلى للثورة على خامئنى طاقم تحريرها.. ويستخدمها النظام فى الترويج لأكاذيبه.. كما بثوا شريط فيديو يعتذر فيه سياماك لجلاديه ويهز رأسه موافقا فى خجل على أنه ليس رجلا سويا.
لكن ذلك لم ينقذ سياماك من السجن فقرر الانتحار فيما وصفه بالموت الاستباقى الذى بدا له أرحم من الحياة المؤلمة والمهينة التى يعيشها.
وببراعة زوجته المحامية الحقوقية ميهرام وابنته الوحيدة ليلى نجحتا فى تدويل قضيته ــ بنشر رسائله التى سربت من السجن فى الميديا الأوروبية والأمريكية ــ فلم تجد السلطة الإيرانية مفرا من الاستسلام للضغوط الدولية فأفرجت عنه وسمحت له بالسفر إلى ألمانيا.
فى برلين عولج سياماك فى مركز ضحايا التعذيب الذى يديره الدكتور مينالس فيلكا.. وهناك حمد الله على نجاته من الاغتصاب الذى يتعرض له فى السجون الإيرانية 35 % من الرجال و85% من النساء حسب إحصائيات شهود العيان.. وبعضهم ضباط سابقون فى الأمن لم تحتمل ضمائرهم ما يحدث فهربوا إلى الخارج وقدموا شهادات مخزية ضد النظام الذى سبق أن خدموه.
لكن.. القصة الأكثر غرابة كانت قصة الصحفى فرج على.
وضعوا فى غرفة نوم بيته كاميرات تسجل بالصوت والصورة العلاقة الحميمية بينه وبين زوجته وما تلاها من فضفضة سياسية تكلم فيه على راحته منتقدا ما يحدث فى بلده دون أن يتصور أن هناك عيونًا زجاجية ترصد وتراقب وتنتهك حرمة الخصوصية المصانة دينيا.
عند اعتقاله أجبروه على أن يعيد ما حدث بينه وبين زوجته لفظا وصوتا فى حالة من الإذلال لم يصدق أن تصدر عن سلطة ترى أنها سلطة إسلامية تطبق وحدها شرع الله دون أن يسألها أحد عن كبائر التنصت ومشاهد ما بين المرء وزوجه.
أكثر من ذلك أوقفوه على كرسى صغير وعلقوه فى مشنقة وبدأ معذبوه فى تحريك الكرسى قليلا ليشعر بالخنق دون حدوثه، فربما توقف قلبه رعبا.
وضربوه بشدة على رأسه حتى فقد الوعى وما أن فاق حتى وجد نفسه وحيدا فى مسرح كبير يستمع فيه إلى موسيقى موزارت.
لقد نجحت الضغوط الدولية فى الإفراج عنه لكن أجهزة الأمن الشرسة صورته وهو مسترخيا فى المسرح لتثبت أنه لم يكن معتقلا وإنما هو يتمتع بحياة مترفة يستمتع فيها بالموسيقى الكلاسيكية دون أن يصدق أحد ذلك، فالموسيقى بكل أنواعها محرمة فى إيران بفتوى صدرت عن خومينى فور قيام الثورة منذ نحو 40 سنة.
إن الصحفيين والمفكرين والمبدعين الذين ينجون من القتل أو السجن فى تلك السلطة المجرمة ليس أمامهم إلا البقاء هناك تحت ضغوط لا تحتمل أو العمل فى البازارات أو الهجرة إلى بلد حر يعبرون فيه عن أنفسهم.
حدث ذلك مع نحو 2500 منهم فروا من إيران فى العشر سنوات الماضية كان من بينهم فهيمة هوليند التى استقرت فى ألمانيا بعد نجاتها من التعذيب فى المعتقل بتهمة كتابة مدونة معارضة ومن بينهم.. مها مهاريش جيفر التى اتهمت بكتابة مسرحيات تنصف المرأة.. وأميد معماريان مراسل نيوزويك الذى اتهم بتكوين شبكة عنكوبتية من أنصار الدولة المدنية العلمانية تخدم المخابرات الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية.
أما التهمة الأكثر إثارة للدهشة فوجهت إلى رامين هاينكو أستاذ الفلسفة الذى نسب إليه بأنه واحد من أتباع الدلاى لاما الحاكم الروحى فى التبت الذى يوصف بأنه عميل لوكالة المخابرات المركزية.
وما يثير الاستياء أن إيران تصر على أنها وحدها التى تطبق الشريعة الإسلامية طبقا لقواعد ولاية الفقيه حيث تكون الكلمة النهائية العليا لمرشد الثورة وتتجاوز أوامره السلطات كلها بلا استثناء بما فى ذلك توجيه التعليمات للنائب العام بضرب المعتقلين السياسيين بلا رحمة وربما تهديدهم جنسيا حسب ما نشر على لسان الضحايا.
ولو كان ذلك تصرف رجل القانون الأول المسئول عن حماية المجتمع وإيقاف التجاوزات والانتهاكات بما لديه من سلطات قانونية فكيف يكون تصرف الأجهزة الأمنية السرية والعلنية؟.
لقد اشتهر جهاز مخابرات الشاه الذى سمى السافاك بقسوة متناهية فى التعامل مع خصوم النظام إلى حد أن قيل: «لا تدعو الله فى سرك حتى لا يسمعك السافاك» لكن ما نسب للسفاك يعد «نزهة» فى حديقة بالنسبة لما تفعل الأجهزة الأمنية القائمة.
والأسوا أن تعدد تلك الأجهزة جعل المواطن لا يتعرف بدقة على من تولى تعذيبه فهناك شرطة الأمن والمخابرات الإيرانية ومنظمة حماية مخابرات جيش الجمهورية الإسلامية ومنظمة مخابرات حرس الثورة الإسلامية ووزارة الاستخبارات والأمن الوطنى.
ولإنقاذ أرواحهم من الفاشية الدينية كان لابد أن تشتعل موجات الغضب فى إيران.. كل موجة أقوى مما سبقتها.. وأكثر تحديا منها.
اشتعلت الموجة الأخيرة فى 40 مدينة إيرانية.. لكنها بدأت فى مدينة «مشهد».. معقل نظام الملالى وحامية مزارات الحج الشيعى.. ثم انتقلت إلى مدن مقدسة أخرى مثل «قم».. فى إشارة واضحة وصارخة إلى كراهية النظام الدينى القائم.. وتأكيدا على ذلك أسقطت وأحرقت وديست بالأقدام صور المرشد الأعلى للثورة وسط هتافات مدوية ضده: «الموت للديكتاتور» بجانب شعار أكثر صراحة: «لا نريد جمهورية إسلامية».
بل تعمدت بعض النساء خلع الحجاب أمام الكاميرات و«شيرت» الفيديو للعالم كله رغم أن السفور جريمة دستورية فى إيران عقابها يصل إلى الرجم أحيانا.
إن تلك المشاهد التى تكررت كثيرا تعنى أن الثورة أصبحت على الثورة وأن لقمة العيش لم تعد وحدها تكفى لإرضاء الشعب، وإنما لابد بجانبها من لقمة حرية وهما معا غذاء الحياة السوية.
لقد انفجرت الثورة الخضراء فى عام 2009 ولكنها قمعت بعشرة أجهزة أمنية لا مثيل لها فى أشد دول العالم ديكتاتورية بعد أن اتهم الإصلاحيين بأنهم حرضوا عليها رفضا لتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية التى فاز فيها أحمدى نجاد.
لكن موجة الغضب الأخيرة مختلفة عنها تماما فهى موجهة ضد النظام بأكمله بشقيه الإصلاحى والمتشدد وإن بدأت بسبب موجة جديدة من الغلاء حرمت المزيد من الطبقات من الخبز والتدفئة وأشارت فى الوقت نفسه إلى فساد النظام بعد أن خسرت 150 ألف عائلة مدخراتها فى مشروعات إسكان وهمية (مثل مشروع شانديز) كان وراءها مسئولون كبار فى الدولة نفذوا أكبر عملية نصب واحتيال ضد المواطنين وأدى ما فعلوا إلى إفلاس عدد من البنوك دون محاسبة من أحد ودون عقاب أحد.
وحسب الكاتب السورى المقيم فى أنقرة : فإن توقف الرحلات الدينية من دول الخليج العربى ضاعف من تأثيرات الأزمات الاقتصادية: تضخم بنسبة 18% (لا يعترف النظام إلا بـ 8% منها) وبطالة تصل إلى 45% خاصة بين الشباب (لا يعترف النظام إلا بـ 12% منها).
إن المشهد الذى أسقط الإمبراطورية السوفيتية وفككها وأخرج دويلات صغيرة من تحت جناحها يتكرر فى إيران دون أدنى استفادة.
لقد أنفق الاتحاد السوفيتى مليارات لا حصر لها على برامج غزو الفضاء وتطوير منظومة الصواريخ النووية وتوسيع النفوذه الخارجى للكرملين فى ظل الحرب الباردة بينه وبين الغرب ولكنه لم يستطع أن يوفر للمواطن آنية طهى مناسبة أو ملبسا يلائمه أو قرص دواء يعالجه أو بيتا مناسبا يسكنه فكان ما كان.
ولا تختلف تلك الرؤية الضيقة القاسية فى إيران فقد أنفقت مليارات تجاوزت كل التوقعات فى برنامجها النووى بجانب ما سبق أن أهدرته فى تصدير الثورة، تنفيذا للدستور وما انفقته على تطوير الصواريخ البالستية وتمدد النظام فى المنطقة المحيطة به من العراق إلى اليمن مرورا بسوريا ولبنان.
حسب بعض التقديرات فإن إيران انفقت ما بين مليار إلى مليارين على ميليشيات حزب الله فى سوريا ولبنان.. ودفاعا عن نظام الأسد انفقت إيران ما بين 15 و25 مليار دولار فى الست سنوات الماضية وهو ما جعل الغاضبين يرفعون لافتات كتب عليها: «دعوا سوريا وشأنها فكروا بنا» وباعتراف حسن نصر الله بأن إيران تمول حزب الله بالمال والسلاح أضاف الغاضبون فى 40 مدينة إيرانية شعار: «لا غزة ولا لبنان حياتنا فداء إيران».
إن نظام الملالى يحصل على 5 فى المائة من كل ريال يدخل خزانة الدولة أو جيب المواطن حسب التقاليد الدينية الشيعية ويكفى أن نذكر أن الميزانية الأخيرة التى قدمها الرئيس حسن روحانى إلى البرلمان كانت تصل إلى 294 مليار دولار لنعرف كم تحت يد المرشد الأعلى من أموال له وحده الحق فى إنفاقها داخليا وخارجيا.
ولو كانت انتفاضة 2009 قد أبرزت قيادات بعينها مثل حسين موسوى ومهدى كروبى فإن الانتفاضة الأخيرة ليس لها قيادة حتى الآن وربما كان ذلك سببا مباشرا فى ضربها بسهولة، كما حدث فى ثورات الربيع العربى التى نجحت فى إسقاط نظام قديم لكنها لم تستطع وضع نظام بديل.
ومثل ثورات الربيع العربى لعبت وسائل التواصل الاجتماعى الدور الأكثر تأثيرا فى انتشارها وبرع الشباب الإيرانى فى التعامل مع التليجرام الذى يصعب على السلطات تتبعه ويصل عدد مستخدميه إلى 40 مليون مستخدم شهريا رغم أن مستخدمى الإنترنت لا يزيد عددهم عن 45 مليونا.
ولم يحرض التليجرام على انتشار الغضب فقط وإنما سهل نقل الصورة إلى الخارج فليس فى إيران من وسائل الإعلام التقليدية إلا وكالة الأنباء الفرنسية.
ولم يكن أمام السلطة الدينية العليا فى إيران سوى إنزال قوات الحرس الثورى لقمع الانتفاضة والحرس الثورى قوات مسلحة أشد بأسا من الجيش وهو أمر متوقع تماما.
لكن.. ذلك لا يمنع حقيقة يستحيل تجاهلها وهى أن النظام الإيرانى فقد شرعيته قبل أن يفقد صلاحيته وعندما يفقد نظام الشرعية والصلاحية، فإنه يصبح سجنا كبيرا لن يتردد الشعب فى أن يكسر جدرانه مهما طال الزمن.