رامي المتولي يكتب: القضية 23 صفعة على وجه "الوحدة العربية"
زياد دويرى يفضح الصراع الطائفى والعرقى والتعصب العربى
"قضية 23" أخر وأحدث أفلام اللبنانى زياد دويرى والذى يوجه من خلاله صفعة على وجه الكل، يجرد القضايا الأساسية المؤسسة للسياسات العربية من الهالات التى تحيط بها ويشير بمنتهى الوضوح إلى التعصب والعنصرية والاحتقار الذى تمارسه الشعوب التى تنادى بأن هناك وحدة تجمعها فى اللغة والدين.
لكنها فى الحقيقة لا يجمعها إلا الصراعات والخلافات والتعالى على بعضهم البعض، زياد فضح التخاذل والتعصب جرد الواقع اللبنانى من المسميات وجرد القضية الفلسطينية وألقى على الأرض الشماعة التى يهوى الكثيرون تعليق الأخطاء عليها وهى الصراع العربى/ الإسرائيلى ويلفت النظر للمشكلة الأكبر وهى الصراع الطائفى والعرقى بين أبناء البلد الواحد ومن بعده الصراع العربى/ العربى نسج خيال زياد مع جويل توما التى شاركته فى كتابة السيناريو علاقة مضطربة حادة بين فلسطينى مسلم يعيش فى لبنان ولبنانى مسيحى متعصب، مشادة بين كلا الرجلين توسعت وتضخمت لتبلع السلام الذى يزين الدولة التى تجمعهم خاصة بعد تحول المشاجرة لقضية رأى عام ليزداد الاحتقان ويستدعى الجميع التركة القديمة من التعصب وتقترب لبنان من حرب أهلية جديدة لكنها خيالية من وحى أفكار زياد وعلى لسان الأب الذى يستجدى ابنه تونى (عادل كرم) بأن يتنازل لأن هكذا تبدأ الحروب الأهلية، الصورة المتخيلة فى الفيلم تصبح واقعية جدًا لدرجة الرعب والخوف وبسبب الاحتقان وتركة أخطاء الماضى السلام هش جدًا ويمكن كسره فى أى لحظة إذا وجد العامل المحفز.
عبر زياد عن ذلك الخوف والترقب بمنتهى القسوة على المشاهد وكأنه يصدمنا فى الخيال لنرى الأمور بشكل أفضل فى الواقع، فهو يعيد محاكاة سيناريو الحرب الأهلية اللبنانية من منظور أكثر حداثة يفتح من خلاله جراح التعصب والرؤى السياسية والعرقية والدينية بمنتهى الحيادية ليرسم شكلا من أشكال القسوة فى معالجة القضية الفلسطينة من منظور الصراع العربي/ العربى ويكشف لحد كبير أسباب الخذلان من وجهة نظره تحديدًا فى مشهد المحاكمة التى يتبارى فيها المحاميان الأب وابنته الأول هو وجدى وهبى (كميل سلامة) الذى يستغل قضية تونى لتحقيق مصالح ورؤى سياسية عنصرية والثانية هى نادين وهبى (ديامان أبوعبود) التى تقف فى صف الفلسطينى ياسر عبد الله (كامل الباشا) فيما يسعى وهبى لوصف ياسر بالعنيف وينبش الماضى ليفتح أمام المحكمة واقعة قديمة ثار فيها وغضب وتسبب بالعجر لجندى أردنى تحاول نادين وضع الأمور فى نصابها وتكشف عنصرية والداها وان القضية تتحول لحرب إذا ما نٌظر لها باعتبارات سياسية.
مشهد المحاكمة تحديدًا هو الذى يكشف عن كل شيء تخاذل الكثيرين عن نصرة القضية الفلسطينية مما جعل المرار فى حلق الفلسطينيين المشردين بين عدة دول والذى يجعل من ياسر المهندس الحاصل على درجة علمية عالية يعمل كملاحظ للعمال، حيث لا يسمح له أن يكون غير ذلك، وفى نفس الوقت يكشف سبب عنصرية تونى وتعصبه لحزبه السياسى «القوات اللبنانية» ضد المسلمين والفلسطينيين تحديدًا، دائرة مفرغة من إلقاء الاتهامات والاحتقان والحل الذى يطرحه زياد على لسان بطلة فيلمه نادين هو المكاشفة والبدء فى تحمل تبعات أخطاء الماضى لنتمكن من المسامحة والمضى قدمًا.
صحيح أن الفيلم روائى لكنه مشدود وحاد كالوتر قريب من الواقع لحد ربما يكون مخيفًا، مجرد سُبة كادت أن تشعل حربًا أهلية تتورط فيها الأحزاب السياسية والدول المجاورة ولم تشفع فيها شفاعة رئيس الجمهورية اللبنانية فى الفيلم الذى كان يحاول القضاء على الفتنة، تصاعد الأحداث والاحتقان الذى رسمه زياد طوال دقائق الفيلم واقعى لدرجة أنه يشعرنا بالضآلة إزاء تعاملنا مع مشاكلنا اليومية التى قد تبدو بسيطة ولا تستحق هذا العناء لكنها ترتكن لتاريخ وماض دموى يستحضره المتشاجرون قبل كل معركة ويندفعون عميان تحت رايات كلمات رنانة وبراقة كالحق والقانون لكن فى الحقيقة هذه الصراعات تخفى التخوين والطبقية، من هذا المنطلق اطل زياد بقسوته المتعمدة الصادمة ليخلق صدمة هدفها الإفاقة، حتى الحقائق فى الفيلم هندسها زياد لتبدو مبتورة غير كاملة ويكون كل حدث هو مبرر لكل طرف فى قسوته وعنصريته وعنفه ضد الآخر.
زياد اعتمد بشكل أساسى على عنصر التمثيل، الشخصيتان الرئيسيتان فى الفيلم هما طرفا النقيض أحدهما مسيحى متعصب دائم الاستماع لبشير الجميل كاره لوجود الفلسطينيين فى لبنان وفى المقابل فلسطينى حاصل على درجات علمية فى مجال الهندسة لكن غير معترف به فى لبنان فيعمل كملاحظ عمال، طرفا النقيض يمثلان قطاعا كبيرا من الموجودين على أرض لبنان والشخصيتان يتطلب أداؤهما قدرات تمثيلية كبيرة وذلك للتحولات النفسية والتغيرات التى تتسبب الأحداث فى تحولاتها، لذك كان أداء كامل الباشا وعادل كرم لا يعتمد فقط على محاكاة المشاعر التى يرسمها الحوار، الأداء تحول لمباراة بين خصمين بالفعل، تناغم كامل فى استخدام أدوات كلا الممثلين ملامح الوجه التى كانت تتغير بسرعة لتلاحق تغيرات الموقف وفقًا للمعطيات الجديدة خروج الثنائى من عند رئيس الجمهورية واكتشاف ياسر لتعطل سيارته يدفع تونى للعودة وإصلاحها له ليتحول الحوار بينهما لمنحنى آخر وكذلك الحال بين مشهدى المواجهة امام ورشة تونى فى بدايات المشكلة ومع نهايتها.
اعتماد زياد على التمثيل كعنصر اساسى كان مدعوما بالمونتاج وتوجها عاما فى شكل الفيلم بالابتعاد عن العنف قدر الإمكان فلا دم ولا مشاهد قتل لكن مونتاج الفيلم بالقطاعات الحادة وتتابع اللقطات السريع فى مشاهد الاشتباكات والتصوير فى الظلام زود من جرعة التوتر وضخمها فى نفوس المشاهدين، وفى المشاهد التى لا تتضمن اشتباكات استغل قدرات كامل وعادل التمثيلية وركز بلقطات مقربة على وجهيهما ليحافظ على نفس القدر من التوتر.