عبدالحفيظ سعد يكتب: صلاح عيسى.. «حارس المهنة» والمثير للدهشة يغيب بجسده
عندما يحل صلاح عيسى فى مكان توقع نشاطا وروحا مختلفة.. فالرجل الذى غاب عن الدنيا منذ ساعات قليلة اعتاد أن يضع فوق مكتبه، مقولة للكاتب الروسى مكسيم جوركى «جئت لهذا العالم لأعترض»..
لذلك ظل صلاح عيسى فى تاريخه المهنى والسياسى غير خاضع لاتجاه واحد أو تقوقع ليعبر عن فكرة بعينها..
صحيح أنه محسوب على مدرسة اليسار المصرى.. وأسس صحفا حكومية.. لكنه لم يحصر نفسه فى ذلك القالب، حافظ دائما أن إعلاء فكرة «المهنية».. سواء فى الصحافة أو البحث التاريخى..
فى حياته الممتدة من أكتوبر 1939، حتى مساء الاثنين الماضى، صُنف صلاح عيسى بأنه رجل المهنة.. لا يقبل أن يضيع يوما من عمره دون أن يعمل، وحتى اللحظة الأخيرة، وقبل أن يهجم عليه المرض، انتظم فى كتابة مقالاته للمواقع والصحف المرتبط بها.
التنوع والغزارة والاستمرارية لصلاح عيسى، كانت تحمل وراءها «سرا»، يحكى عنه اثنان من أصدقائه ممن عاصروه، وعاشا مع «عيسى» فى الحياة والعمل والسجن.
صديقا صلاح عيسى الشاعر «نجيب شهاب الدين»، والصحفى «مصباح قطب»، الاثنان، يعتبران - انفسهم - من تلاميذه « وصاحب فضل عليهما ليس فى المهنة فقط بل فى الحياة».. هما مشتركان فى «طينة» الدلتا المصرية، والتى انتمى إليها صلاح عيسى، حيث ولد وتربى فى قرية « بشلا» مركز ميت غمر بالدقهلية.. ترك فى عام 1961 وظيفته الحكومية التى نالها بعد حصوله على بكالوريوس الخدمة الاجتماعية، وبدأ فى كتابة القصة، ثم دخل مجال السياسة اعتقل عدة مرات فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات بتهم تتعلق بنشاطه فى اليسار والأحزاب الاشتراكية..
لكن «السجن» لم يغير كثيرا من صلاح عيسى وتجربته فى الحياة فيحكى «نجيب شهاب الدين»، عندما جمع بينهما سجن طرة فى 1972، كيف حول صلاح عيسى بقدراته الخاصة فى النشاط والابتكار أيام السجن الصعبة ولياليه الكئيبة إلى بهجة وعمل، مستغلا خطابه الحماسى، فى أن يكون قائدا لرفقاء السجن..
وضع لهم نشاط يوم عبارة عن ندوات ثقافية وفنية وسياسية.. يتحدثون فيها ويتبادلون الأفكار.. وأسس مجلة للسجن.. وفى الليل عندما تغلق الزنازين، وضع لهم برنامجا آخر «إذاعة» داخل السجن يقدم كل واحد من المسجونين فقرة يومية يستمع إليه باقى النزلاء فى سكون.. وحرص أن يكون هناك فاصل بين كل فقرة وأخرى، بصوت موسيقى أتقنه أحد السجناء..
يحسب لصلاح عيسى، أنه ساهم فى إعادة الحياة للصحافة المصرية فى مطلع الثمانينيات، بعد أن تراجعت نتيجة الإجراءات وحملات التصفية التى قام بها السادات قبل مقتله..
وفى تجربة جريدة الأهالى لحزب التجمع، كان «عيسى» صاحب البصمة الخاصة التى ساهمت ليس فقط فى انتشار الأهالى، بل لإعادة بث الروح للصحافة..
وحتى بعد أن ابتعد صلاح عيسى عن المسئولية فى تحرير الصحف لعدة سنوات قبل أن يعود ويؤسس صحيفة « القاهرة» الثقافية، حضر بكتب ومؤلفات تكشف عن جزء آخر من مهنيته، فهو المؤرخ الاجتماعى، صاحب الاستقصاء والتحقيق فى تاريخ مصر، من خلال كتب حملت بصمة خاصة وجمعت ما بين الحكاية الاجتماعية والتأريخ الصحفى، وذلك فى كتب «رجال ريا وسكينة»، «حكايات من دفتر الوطن»، «هوامش المقريزى»، تباريج جرى «مثقفون وعسكر، وكتابه «دستور فى صندوق القمامة»، والذى يظل المرجع الأهم عند الحديث عن تطور الدساتير المصرية.
