منال لاشين تكتب: من باريس لسجن القلعة.. يوميات فنان مشاغب
حكايات سلماوى عن أم كلثوم ويوسف إدريس والحكيم وصباحى وسجن الاستئناف
جلس الصحفى الشاب أمام رئيس وزراء أستراليا ليجرى حوارا صحفيا، ولكن الرجل فاجأه بسؤال عما يحدث فى مصر من حملة اعتقالات. فأجابه الصحفى بأنه لم يقرأ أى اعتقالات. فرد رئيس الوزراء بأن الخبر لم ينشر فى الصحف ولكن تم اعتقال محمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين. فاستأذن الصحفى للاتصال بجريدته الأهرام لمعرفه الأخبار. ففوجئ بأن اسمه ضمن المقبوض عليهم، والخبر الأخطر أن الأهرام فصلته نهائيا عن العمل. فاعتذر الصحفى للمسئول الأجنبى الكبير عن الحوار الذى لن ينشر فى الأهرام. ولكن رئيس الوزراء الأسترالى أجرى معه حوارا عن أحوال مصر فى أواخر أيام السادات. وبذلك يكون الأستاذ محمد سلماوى هو الصحفى الوحيد الذى أجرى معه حوار بدلا من أن يقوم هو بإجراء الحوار. هذه القصة المثيرة هى واحدة من عشرات القصص والحكايات الموحية التى يرويها سلماوى فى مذكراته (يوما أو بعض يوم). وهى مذكرات تحمل لقارئها المتعة والمعرفة معا. فسلماوى رجل متعدد المواهب والخبرات ولذلك جاءت المذكرات مزيجا بين السياسة والحب والفن والإبداع والمسرح وجولات حول العالم، كل ذلك فى هارمونى مع قصص الحب وأيام الشقاوة والمغامرات الشبابية الصغيرة. ولكننى اخترت بعض القصص المجهولة التى أزاح عنها سلماوى الستار لأول مرة، وهى قصص لشخصيات سياسية وفنية وأدبية من الصنف سبع أو عشر نجوم.
1- قرار أم كلثوم
الجميع يعرف قصة غناء أم كلثوم على مسرح الأوليمبياد فى فرنسا والنجاح المذهل والطاغى الذى حققته هناك. ولكن سلماوى يحكى قصة خفية عن هذا الحدث التاريخى. فقد رفضت أم كلثوم التحدث باللغة الفرنسية التى تجيدها. وكان مدير المسرح يستعين بسلماوى عندما يريد أن يحادث أم كلثوم. وما بين الوصلة الأولى والثانية جاء مدير المسرح وطلب من سلماوى أن يترجم لثومة طلبا غريبا. وهو ألا يقوم الإذاعى الشهير جلال معوض بتقديم الوصلات والحفل بشكل سياسى، وألا يتحدث عن العروبة وفلسطين، ففى النهاية هذا مسرح وليس حزبا سياسيا. وقبل أن يقوم سلماوى بمحاولة نقل الطلب. ردت أم كلثوم بالوقوف وقالت موجهة حديثها للفرقة الموسيقية (قوموا ولموا الآلات) وأبدت استعدادها لترك الحفل وتحمل التوابع. وكانت أم كلثوم قد تلقت أغلى أجر دفع فى حفل بالمسرح العريق (20 مليون فرنك) غير الامتيازات الأخرى. ففزع مدير المسرح واعتذر لها. وأكمل صوت جلال معوض تقديم الوصلات بنفس الحماس والوطنية.
2- اقتحام إدريس
عندما جاء مبارك للحكم قام بإجراءات تهدئة للوضع فى مصر وأفرج عن كل المعتقلين وكانوا نجوم مصر فى السياسة. وذات يوم قرر الأديب الكبير الدكتور يوسف إدريس قرارا جنونيا. ركب إدريس سيارته حتى وصل إلى قصر الرئاسة بدون موعد أو طلب. وأصر على مقابلة مبارك. وبالفعل وافق مبارك الذى كان رئيسا مستجدا على لقاء يوسف إدريس، وظن مبارك أن يوسف سوف يطلب طلبا شخصيا أو يقدم اقتراحا، ولكن مبارك فوجئ بأن يوسف إدريس يقول له إنه أراد فقط أن يخبر الرئيس أنه موافق ومعجب بإجراءاته وبالخط الذى ينتهجه الرئيس الجديد. وأن الأديب الكبير رأى أن من واجبه أن ينقل هذه الرسالة للرئيس.
3- نوبل الظالمة
فى المذكرات ينفى سلماوى الخلاف الشهير بين إدريس ونجيب محفوظ على جائزة نوبل التى ذهبت لنجيب. ولكن يكشف عن ظلم جديد قديم تعرض له مفكر وأديب مصرى وعربى من أهل نوبل. ففى عام 49 كان النفوذ الصهيونى قد بدأ يشتد عوده خاصة مع إعلان دولة إسرائيل. وكان الدكتور طه حسين من أبرز المرشحين لنيل الجائزة فى الآداب. واقتصر الترشيح النهائى بينه وبين أديب أمريكى. وخضعت اللجنة لضغوط شديدة فاضطرت إلى حجب الجائزة للآداب. ولكنها منحت الجائزة فى عام 50 لنفس الأديب الأمريكى. وقيل فى منح الجائزة إنه ترشح عام 49، ولكنه حصل عليها فى عام 50. وهذه سابقة لم ولن تحدث فى تاريخ نوبل. بحسب تأكيدات سلماوى فإن يوسف إدريس قد رشح أكثر من مرة لنيل نوبل، ولكن القرار كان لم يتخذ لتذهب الجائزة إلى عربى.
4- الدور السادس
عندما انتقل سلماوى للعمل فى الأهرام تفتحت أمامه مغارة على بابا. كان ينتقل من الدور الرابع إلى الدور السادس حيث آلهة وعمالقة الإبداع والنقد فى مصر والعالم العربى: توفيق الحكيم نجيب محفوظ الدكتور لويس عوض وبنت الشاطئ ويوسف إدريس وآخرين. كل هؤلاء جمعهم هيكل فى الدور السادس. ومن هذا العالم المتفرد صاغ سلماوى بعض أهم صفحات حياته. يحكى أن نجيب محفوظ انتقل لمكتب الحكيم بعد وفاة الأخير، وبعد حصوله على نوبل. ولكن نجيب رفض أن يجلس على مكتب الحكيم طوال سنوات سكنه الغرفة. وكان يستقبل ضيوفه وهو جالس على الكنبة.
فهذه أخلاق القمم، ومن يقرأ المذكرات سيجد كثير امن الحكايات عن بخل توفيق الحكيم. فقد كافأ الحكيم سلماوى بدعوته على الغذاء لأن سلماوى وفر له ثلاثة قروش بعدما أقنع ضيوف الحكيم بشرب القهوة بدلا من الكولا، ولكن بخل الحكيم أبى أن ينفذ وعده بالعزومة على الغداء.
5- تجربة السجن
ومن الدور السادس بدأ سلماوى مواجهته مع نظام السادات. فقد طلب منه الحكيم أن يوقع على البيان الشهير الذى يطالب السادات بالحرب مع إسرائيل، ويعتز سلماوى أن الحكيم منحه فرصة للوجود مع الكبار، ولكن هذه الفرصة انتهت بفصله من عمله بالأهرام. فقد قرر السادات فصل كل الكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعة من عملهم. وكانت هذه خطوة مهمة فى حياة سلماوى السياسية. فقد كان سلماوى يرفض انقلاب السادات على سياسات جمال عبدالناصر. وأهمها العدالة الاجتماعية والقومية العربية ودور مصر فى القضية الفلسطينية. وكان سلماوى نجم نوادى الفكر الناصرى والتجمعات الناصرية فى تلك الفترة. وبالطبع كانت مقالاته تعبر عن آرائه وقناعاته. وظل النظام أو بالأحرى الداخلية تتحين الفرصة للانتقام من سلماوى. ولذلك ما إن اندلعت مظاهرات الطعام فى يناير 1977، وبدأ القبض على أهل اليسار. حتى زعم وزير الداخلية أن هناك صورة لسلماوى وهو يقود المظاهرات. وبالفعل تم القبض على سلماوى من منزله بالمعادى. وقضى أسود وأطول يوم فى حياته بسجن القلعة الرهيب، ونحو 40 يوما فى سجن الاستئناف. وعلى الرغم من أن تجربة الحرمان من الحرية والسجن فى مصر تجربة سيئة ومدمرة، فإن سلماوى صاغها بصدق وشاعرية بحيث اختلط الألم مع لحظات الفرح. والشوق لزوجته وأسرته مع الشوق للحرية والوطن. ولذلك جاء هذا الجزء من المذكرات من أفضل فصولها.
أسوأ لحظة فى تجربة السجن عندما ذهب هذا الشاب الفنان لسجن القلعة الرهيب وأودع فى أحد زنازينه الجهنمية. ولمن لا يعرف سجن القلعة فإن الزنازين مصممة بحيث لا يدخلها شمس أو ضوء وحجم حائط الزنزانة الصغيرة نحو متر. وفى هذا الجو المرعب لم يخف سلماوى فى مذكراته لحظات هزائمه الصغرى ضد الجوع والخوف. وذلك دون أن يفتخر بانتصاره الأكبر فى معركة الصمود والكرامة.
ففى سجن القلعة بدأ يتذكر قصصا أدبية قرأها وكلها مربعة. تذكر قصة الرجل الذى يقيد آخر ويبدأ فى دفنه ببناء سور حتى يموت الرجل بالاختناق. تصور أنه قضى أياما فى القلعة ولكنه اكتشف فى الصباح أنها مجرد ليلة سوداء. فى سجن الاستئناف وجد زملاءه من الكتاب والسياسيين.
هناك قصة لافتة يجب أن يقرأها كل مسئول. فعندما وصل سلماوى لسجن الاستئناف كان السادات قد تراجع عن رفع أسعار السلع الرئيسية. وكانت الصحف قد وصفته بأنه أحد زعماء المظاهرات. ولذلك استقبله السجان بحب شديد بوصفه الزعيم الذى أرجع الأسعار إلى عهدها. كان السجانون وبعض الضباط يؤكدون لهم تأييدهم لموقفهم. فالناس مش ناقصة والناس (كحت تراب) ولذلك كان سلماوى وزملاؤه من المعتقلين يعاملون معاملة حسنة رغم إجراءات السجن القاسية. فأى نظام يعادى الناس الغلابة ويجىء على أكلهم ورزقهم لا يمكن أن يضمن ولاءهم الحقيقى له.
بعد عدة أسابيع أفرجت المحكمة عن سلماوى ومعظم المقبوض عليهم. وقد علم بحكم البراءة من خلال السياسى حمدين صباحى الذى كان يتابع المحكمة التى تقع أمام سجن الاستئناف.
خرج سلماوى ليعود للعمل فى أجواء خانقة وما بين المنع من الكتابة يأتى التضييق على ما يكتبه، فبعد وقت قليل من خروجه من المعتقل أعلن السادات انقلابه الأكبر. أعلن ونفذ الذهاب لإسرائيل وعقد معاهدة السلام. وتنتهى المذكرات بلحظة فارقة ودموية لحظة مقتل السادات على يد الإسلاميين الذى راعهم وشجعهم لضرب الناصريين وأهل اليسار. وفى انتظار الجزء الثانى من مذكرات سلماوى ممكن تقرأ الجزء الأول الصادر من دار نشر الكرمة فى 427 صفحة وبـ120 جنيها.