د. رشا سمير تكتب: "عذراء أسيوط".. الحياة فى "بئر الخطيئة"
رواية للمستشرق اليونانى كوستى ساجاراداس
كوستى ساجاراداس أديب يونانى كان عميدا للجالية اليونانية بأسيوط فى أوائل القرن التاسع عشر..أمضى معظم حياته فى القاهرة وعاصر الكثير من أحداثها المهمة مثل ثورة ١٩١٩ فى أعقاب الحرب وتأثر بالمجتمع المصرى فى بساطته وثرائه وشخصيات البسطاء من حوله.
وأبدع بقلمه حين كتب عن عوامل الانحلال الذى تفشى عقب الاحتلال.. ومن خلال تلك المشاهدات خرجت لنا تلك القصة التى عبرت عن كونه جزءاً من المجتمع المصرى، إنسان له مشاهدات ورؤية صنعها من بين أحضان مجتمع احتضنه طويلا.
نشرت تلك الرواية عام ١٩٢٤ فاستقبلتها الدوائر الأدبية فى مصر واليونان بكل تقدير وترحاب.. ولكن ترجمتها إلى العربية كانت حلما ظل الأديب يحلم به إلى أن تحقق على يد المترجم المصرى عبد السميع المصرى..وكانت لدار النشر «أقلام عربية» وصاحبها الأستاذ أمير الناجى السبق فى تقديم هذا العمل اليوم للجمهور.
الحقيقة لا يفوتنى هنا تحية الدار، لأن النشر فى مصر أصبح مغامرة كبيرة فنجاح الروايات تحول إلى حدث مرتبط بالكثير من الأشياء مثل الذوق العام الذى انحدر كثيرا ومواقع التواصل الاجتماعى التى أصبحت هى سلاح نجاح كل المبدعين أو سقوطهم.. والحقيقة أن الرهان على عمل أدبى صعب أو من الجائز أنه لن يحقق العائد المتوقع فهو رهان مربك..هذا ما يجعلنى أصفق لكل دور- النشر التى تبحث عن القيمة وتغض البصر لحد ما- عن حركة البيع والعائد المادى.. لأن الثقافة ذات القيمة أصبحت معضلة حقيقية أمام الناشرين.
1- الرحلة
تبدأ الرواية برحلة فى الجبل تقوم بها سيدتان لا تفصح الرواية للوهلة الأولى عنهما، هما نفيسة وأمينة وتصطحبان فيها الشابة نبيهة التى يبدو من الوهلة الأولى أنها مضطربة ويعتريها الخجل وفى نفس الوقت تتطلع للمكان الجديد دون أن يشير المؤلف بأى إشارة إلى ماضيها فى بداية الرواية ولا حتى دخولها فى الأحداث.
تعرفها نفيسة بالحياة التى هى على وشك أن تبدأها معهما وكم هى حياة شائكة وكيف اعتادتا عليها.. وتطمئنها نفيسة على أنها سوف تقوم برعايتها وسوف تكتب إقرارا منها بذلك أمام البوليس.
هكذا أخذت نفيسة على عاتقها منذ الوهلة الاولى أن تقوم بدور المعلمة للفتاة الجديدة وتعطيها خلاصة تجاربها فى هذا الطريق الشاق.
تصعد العربة بهدوء إلى القمة والحديث دائر على أشده بين النساء.. من فوق الجبل تنكشف اسيوط بجمالها الأخاذ.. تصل القافلة إلى اصطبل عنتر والمقابر الفرعونية.. تتجول نبيهة فى المكان بعينيها منبهرة بما لم تر من قبل.
بعد قليل افترش الجميع الأرض وتحولت الجلسة إلى تناول الخمور وقرقعة الكؤوس ونبيهة تنظر مبهوتة العينين، مخطوفة الفؤاد.. تستمع بنصف عقل وكل حواسها إلى حوارات قافلة النساء اللاتى أصبحت دون اختيار واحدة منهن، فلا تصدق نفسها.. إنها سوف تتحول إلى واحدة من هؤلاء البغايا.. لسوف تحصل على رخصة تقدم بموجبها جسدها كل ليلة لعابر سبيل.
يا لها من بائسة! لقد انزلق كل هؤلاء النسوة من قبلها، بل إنهن يستمتعن بالسقوط فى بئر الخطيئة بكل فخر وسعادة.. يصف الكاتب شعور الفتاة فى تلك اللحظة قائلا:
«لقد زادت ثورتها النفسية احتداما حتى لتوشك أعصابها أن تنفجر منذ أن سمعت من الست نفيسة وهم فى الطريق إلى الجبل عن ضرورات هذه الحياة الجديدة ووجوب استصدار «رخصة» من البوليس لمزاولة عملها..رخصة؟!
إن هذه الفكرة كادت أن تذهب بلبها؟ هل قدر لها رسميا أن تصبح إحدى البغايا؟ هل أصبح لزاما عليها أن تستجيب لنزعات كل طارق مجهول قذر؟ وأن تسلم جسدها لأداء هذه الوظيفة الوضيعة البغيضة لكل زائر»
2- الهروب
تقرر نبيهة الهرب من قبضة الغواية.. فهى لم تسع إليها..فتقفز فوق الصخور ولا تأبه بالجرح الذى أحدثته الصخور بقدميها.. بل تجرى مبتعدة علها تستطيع الخلاص من قبضتهن إلى الخواء.
تلتقى نبيهة فاطمة.. امرأة فى العقد الخامس من عمرها، لكنها محتفظة بجمالها وجاذبيتها.. تحكى لها نبيهة عن قصتها وكيف ساقتها أقدارها إلى هذا المكان..فترفق المرأة الغريبة لحالها وتدعوها لمشاركتها حجرتها البسيطة التى كان طفلها الصغير يشاركها إياها ثم تركها ليذهب إلى من خلقه..وها هو الله يعوضها بمن يؤنس وحشتها..
شعرت نبيهة باطمئنان تجاه السيدة البسيطة حتى إنها ترتمى فى أحضانها بحثا عن الامان وكأنها والدتها.
3- النجاة
فى الجزء الثانى من الرواية يظهر كامل البطل الحقيقى للرواية فى رأيى..الابن الوحيد لرجل مسلم محافظ أورثه الكثير من الأفكار الرجعية والخرافات التى لا تتفق مع علم وخبرة كامل من الأعوام التى قضاها فى أوروبا.
يرسم الكاتب هذا الصراع الدائم الذى يقع فيه كل المصريين الذين يتعلمون فى أوروبا ويعيشون فى مصر أو يعودون إليها لتسكنهم طوال الوقت أفكارهم الرجعية ويحكمهم تعليمهم المختلف فيقعون فى فخ الاختيار.. هذا الصراع هو ما راقبه الكاتب اليونانى من خلال حياته الطويلة فى أسيوط وهو ما قرر أن يسقطه على شخصية كامل.
هكذا تصل نبيهة إلى البيت أو الصومعة التى يعيش فيها كامل وتقدمها إليه فاطمة السيدة التى تعرفت إليها عند المقابر..تدعوها للبقاء فى منزله وتقبل نبيهة حيث لا حل بين يديها إلا ذلك الحل للنجاة.
وكما هو المتوقع أو كما يقرأ القارئ من بين السطور منذ الوهلة الأولى، يستدرج كامل الصغيرة نبيهة إلى أحضانه وتنزلق هى إلى تلك الخطيئة بكل سهولة وكل ترحاب على الرغم من أننى كقارئ لم أفهم لماذا رفضت هى حكايا أمينة وأصابها اكتئاب الدنيا من رحلة الجبل التى صرحت لها فيها النساء بحقيقة ما هى مقدمة عليه، وفى نفس الوقت سقطت بين أحضان كامل دون تردد ولو لحظة تراجع واحدة..تلك اللقطة فقد فيها الكاتب قدرته على الإقناع أو لنقل حجته فى إقناع القارئ..
4- الاعتراف
وعلى الرغم من مضى الرواية فى طريقها إلا أن القارئ لابد وأن يسأل نفسه ولماذا اختار الكاتب هذا العنوان الذى لم يرتبط حتى هذه اللحظة بأى من الأحداث.. وكأن الروائى قرر أن يعود بالكلمات إلى المعنى الحقيقى من وراء الرواية فى هذا الفصل من الرواية.
تستطرد نبيهة وهى بين أحضان كامل وتفصح عن باقى قصتها التى أبت أن تحكيها لأحد.
تعود بالذاكرة إلى حيث وفاة أبيها والبيت كله متشح بالسواد وإلى اللقطة التى يصل فيها رجل فى الخمسينيات من عمره ويقدم نفسه إليها على أنه عمها الذى لم تره من قبل.. يقدم لها العزاء ويد العون أيضا.
يأخذها إلى منزله ويعرض عليها المأوى والحماية والسند..فلا تتردد فى القبول فى مثل هذه الظروف، وتقابل زوجته الطيبة التى تعانى من شلل نصفى تصعب معه الحركة.
ثم يتسلل هذا الشعور المخيف لديها بأن عمها يطيل النظر إليها ويحاول الالتصاق بها فى كل مناسبة تسمح له بذلك، ثم تحين اللحظة التى يراودها فيها عن نفسها ويعطيها سيجارة حشيش تفقد معها وعيها..فيفترسها دون رحمة وهى بين الغفو والصحوة..ثم تفيق على الحقيقة المُرة فى بلدة لا ترحم وأشخاص أصابهم التعصب المجتمعى إلى حد القتل..لقد فقدت أعز ما تملك..فقدت أهم ما تشرف به العذراء فى تلك البلدة..أسيوط.. هكذا قُدر للرواية أن يكون عنوانها «عذراء أسيوط».
وتستمر الحياة بنبيهة حيث ترفعها لأعلى ثم تهبط بها دون رحمة إلى هوة سحيقة.
وتنتقل الرواية إلى علاقتها بالحكمدار ووقوعه فى براثن الكوكايين وتفاصيل أخرى مخيفة طرحتها الرواية، جعلتنى أشعر وكأن نظرة الكاتب للمجتمع فى أسيوط لا تتعدى الخطيئة بكل معانيها.. فالرجال لا ينهشون إلا لحم النساء.. والنساء لا يتواجدن إلا من خلال رجل يعشن فى محرابه!
5- الأديب أم المستشرق؟
لم ألمح بين صفحات الرواية روائياً موهوباً بقدر ما لمحت مؤرخاً مجتهداً.. فكوستى ساجاراداس ليس روائيا بمعنى أنه يمتلك الحبكة القصصية ورسم الشخصيات الدقيقة، ولكنه دون شك عاش وسط المجتمع المصرى ورآه بعين الأجنبى العاشق..
أرى أن الرواية ركيكة من حيث أدوات الرواية وأركانها ولكنها رواية تمتلك ملامح من أسيوط التى هى عروس الصعيد.. فهو يصفها كما عاشها:
«أسيوط وتدعى عاصمة الصعيد تكاد أن تكون مدينتين مختلفتين تفصلهما السكة الحديد..فأنت إذا ما تركت مدافن المسلمين المتسعة والتى تواصل امتدادها شمالا على حافة صحراء ليبيا..إذا مررت بها تغوص بالحوانيت الصغيرة الضيقة حيث تصنع أدوات الزينة من العاج والخشب المطعم بالأبنوس والعاج، كما ترى الأنوال اليدوية لصناعة الأقمشة المختلفة لا تفتر عن العمل والحركة..إلى جوار كل ذلك تجد حوانيت البقول التى تبيع للناس الزيت وتوابل الهند والنقل وعطور القاهرة النفاذة.. والمقاهى البلدية التى لا تتعدى مساحة الواحدة منها بضعة أمتار قليلة مربعة».