د. رشا سمير تكتب: "ابن النيل" مصر بين "الحياة.. والموت"
المستشرق الإنجليزى "بكتال" يرصد تاريخ المحروسة من الخديو إسماعيل لثورة 23 يوليو
■ الكاتب عاصر تلك المرحلة وأراد أن يصنع إسقاطًا سياسيًا على وضع الدولة فى تلك المرحلة
مصر.. أم الحضارات، حضن الفنون والإنسانية، أرض حملت خطوات السيد المسيح، حيث استندت إلى شجرتها السيدة مريم، ونزل فوق جبلها الوصايا العشر، حصن بناه الإسكندر.. وسنابل قمح حصدها الفلاحون.
هذه هى مصر كما يراها أبناؤها، أبناء النيل، ولكن من هى مصر التى يراها المستشرقون، وكيف يرونها؟
المستشرق.. كلمة نسمعها ونرددها كثيرا، ولا يدرك الكثيرون معناها اللغوى، فالاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويُطلق على كل ما يبحث فى أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ويقصد به ذلك التيار الفكرى الذى يتمثل فى إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامى، والتى تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته.
لقد أسهم هذا التيار فى صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة، وعن العالم الإسلامى بصورة خاصة، معبراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضارى بينهما.. لكن، ماذا لو كتب المستشرقون عن مصر، هل يكتبون بنفس القلم؟ هل يستخدمون نفس الأحبار؟
نحن المصريين نرى بلادنا بالقلب وليس بالعين، نحسها ولا نقرأها، نذوب فى تفاصيلها ولا نرى القبح الذى عشش فى كثير من الأماكن حتى لو اعتصر القلب وأسقط دمعة من العين، أما المستشرق فهو شخص يرى مصر بعين العاشق ولكن لا يزال عقله قادرا على صياغة التفاصيل والإشارة إلى كل ما هو مخالف للصورة الجميلة.
هكذا أصبح التاريخ يُكتب بأقلام المستشرقين، وللأسف أخطأ الكثيرون وانحاز الكثيرون وشوه الكثيرين الصورة، لكننا هنا أمام رواية تحمل تاريخا عاشه الراوى وهو المستشرق الإنجليزى سير محمد مارمادوك بكتال وترجمه الأستاذ سمير محفوظ بشير فى رواية تقع فى 333 صفحة صادرة عن الدار المصرية اللبنانية.
1- من هو بكتال؟
قبل أن نستمع إلى الأغنية يجب أن نتعرف على الصوت الذى سيغنيها، وهكذا هو الأدب، فلنتعرف على الكاتب قبل أن ننغمس فى صفحات روايته.
محمد مارمادوك بكتال أو مارمادوك بكتال، كان روائياً وصحفياً وقيادياً دينياً وسياسياً، ولد فى لندن 19 مايو 1875، تخصص فى الدين الإسلامى، اشتهر بترجمته لمعانى القرآن الكريم إلى الإنجليزية والتى كتبها بأسلوب أدبى شعرى، وبسبب صحته المتدنية فضل أن يرحل إلى الشرق، ووصل إلى بورسعيد وعمره 18 عاما، فى مصر تعلم العربية ومنها رحل إلى فلسطين وسوريا.
وقد أعلن تحوله من المسيحية إلى الإسلام بشكل دراماتيكى مثير عقب تقديمه لخطاب حول الإسلام والتقدم فى 29 نوفمبر 1917، الكاتب له محاولات عديدة فى كتابة القصة عن مختلف البلدان مثل: «أقوال مواطن إنجليزى»، «سعيد صياد السمك»، «ضيق العقل»، «أبناء النيل»، «أرض السلاطين»، «مرق اللحم»، «مرعى المزاح والمرح»، «النساء وراء الكواليس»، «الأتراك فى فترة الحرب»، و«بيت الحرب».
2- الطبيب والنصاب
تبدأ الرواية بشخصية مبروك، الطالب فى مدرسة الطب الذى يستدعيه أبوه ويشكو إليه تكاتل الفلاحين ضده ليحرموه من منصب عمدة القرية ويتهموه بأنه أرسل ابنه إلى مدرسة الطب، وقد كان من الممكن أن يرسله إلى الأزهر، ولذا فهو يطلب منه أن يترك دراسة الطب ويصبح فلاحا مثل أخيه، حتى يستطيع والده أن يرفع رأسه فى وجه أهل القرية الأشقياء.
وعلى الرغم من كسرة نفس مبروك إلا أنه يبدى السمع والطاعة لأبيه، ثم يظهر فى الأحداث محمد النورى نصاب القرية، ويحكى النورى قصته لمبروك، هو الشخص الذى كان متشردا وشقيا وكان والده من مواليد بلدة جبرتة بالحبشة، أتى إلى مصر وتزوج من امرأة فيومية، واستقر هناك ليعمل صانع أحذية، وعندما بلغ محمد العشر سنوات، غادرت العائلة مدينة النخيل والجداول الباسقة والسواقى الناعبة، ثم اتجهوا إلى دمنهور وهناك قرر محمد أن يجمع لنفسه مجموعة من النهابين، بدأوا عملهم بالمزاح ثم تحول الأمر إلى حقيقة، حيث بدأوا ينقلون «المعيز بالليل من الزريبة إلى أعلى السُطح أو تفريغ صوامع الغلال، ومن هنا أدرك محمد النورى أنه فتى يفوق الجميع».
قرر أن يسلك مشواره الإجرامى، ويصبح جوالا بين البلدان ويحترف العمل الإجرامى فيشكل عصابة من الشباب، قُبض عليه مرة وحكم عليه بالسجن خمس سنوات واستطاع أن يهرب ويواصل نشاطه الإجرامى، يطلب محمد النورى من مبروك أن يصاحبه ويصبح شريكا له، ويقنعه قائلا:
«إن حالة مصر العامة الآن تدعو للرثاء، لقد قام المرابون الأجانب الأغبياء بإغراء الخديو إسماعيل للحصول على ديون ضخمة، بعد أن كانوا هم أولا عبيده الطائعين أوقعوه فى شباكهم ثم أصبحوا بعد ذلك دائنيه، واليوم كل ثروة مصر أصبحت تحت سيطرة الأجانب، وأصبح إسماعيل لا حول له ولا قوة وهو واقع فريسة تحت أيديهم».
3- ابن النيل
استطاع مبروك أن يرفض عرض النورى وأن يحاول قدر استطاعته أن ينزل للعمل فى الأرض الزراعية ويندمج فى حياة الفلاحين الذى فُرضت عليه فجأة أن يصبح واحدا منهم، وهنا يستعرض مارمادوك الصورة التى رآها بعينيه للحياة البسيطة للفلاحين وأسرهم والمعاناة التى كانوا يعيشونها فى خضم ظروف اقتصادية متردية، على الرغم من كونهم طوال الوقت راضين بواقعهم، حتى جلساتهم المسائية التى كانوا يتسامرون فيها ويلقون النكات التى كانت وما زالت هى سمة الشعب المصرى، عكست بقلمه بساطة الحياة فى الريف المصرى.
ويستعرض أيضا فى المرحلة الثانية للرواية كيف يُساق مبروك إلى معسكر المجندين بعابدين، وكيف انقطعت علاقته بزوجته منذ أن غادر طنطا حتى ظنت أنه مات، ولكن ما الفرق بين حياة العبودية وبين الموت؟، أما الفرق بين طالب الطب وبين ماهو فيه اليوم، فهو يبدو كالفرق بين الحياة والموت!.
يستعرض الكاتب وجه الحياة العسكرية التى لا أعلم من أين جاء بمعلوماته عنها، وهل هى تجربة شخصية لمن خاضوها أم أنه مجرد تصور لحبكة درامية لتجربة أشخاص عاشرهم؟، كما يستعرض موقف الضباط الأتراك الأكثر تعسفا من الأجناس الشركسية والألبانية والذين كانوا دوما محلا للكراهية والبغض، وهم الذين كانوا دوما يصفون المصريين باعتبارهم كلاباً أو خنازير.
4- لغة الرواية الأدبية
شىء لم أستعبه أو أفهمه طوال قراءتى للرواية وهو الألفاظ الخارجة التى استعملها الكاتب، وهى ألفاظ سوقية لا أعتقد أن للكاتب نصيبا من سماعها حين كان بالقاهرة، فهل هى فعلا لغة اكتسبها من عشرة القوم أم هى التحابيش التى أضافها المترجم ولكنها فى الواقع كدرت جو الرواية العام.
الرواية طالها الملل الشديد، فهى تحكى صورة ترسخت فى ذهن المستشرق مارمادوك، ولكنها افتقدت العناصر التشويقية للرواية، فقد كان من الممكن أن يدخل بعض الشخصيات الأخرى التى تحمل ملامح الشخصية المصرية الأصيلة وتداخلها وسط مجتمع يحمل الاختلاف عن المجتمعات الأجنبية التى تربى المؤلف بها.
الأحداث بطيئة واللقطات متتابعة ولكنها لا تحمل الجديد، فقد تصورت أن الرواية ستأخذنى إلى أغوار مصر التى لم أعاصرها فى ذلك الوقت ولكننى رأيتها بريشة الرسام دافيد روبرتس على سبيل المثال، الحقيقة أنه داخلنى إحباط فى منتصف الكتاب وتأكد لدى هذا الشعور حين قرأت آراء معظم من قرأوا الرواية.
5- قادة وجنود
الأكيد أن الكاتب عاصر تلك الأحداث وأراد أن يصنع إسقاطا سياسيا على وضع الدولة فى تلك المرحلة، ويتجلى ذلك عندما بدأ يسلط الضوء على أحداث ثورة 1919، وتأسيس الحكومة والاجتماعات السرية التى دارت فى أروقة الثورة، وهنا يظهر أسماء أشخاص حقيقيين مثل عبد الله نديم وعمر أفندى ومحمد حافظ وأحمد عرابى وغيرهم،
ويتناول الكتاب معركة التل الكبير والتى يظهر بها مبروك كمجند فى أحد المعسكرات التى ساهمت فى هذه المعركة.
تشتد الأحداث فى الثلث الأخير من الكتاب حيث يُصاب مبروك فى المعركة وينقذه شخص غريب ولكنه يصر على الرحيل والعودة إلى قريته.
«ما الذى يمكن أن يشغل بال هؤلاء الفلاحين، فهم جميعا نيام الآن كما تفعل النباتات والأشجار؟ وما الذى يدعهم يهتمون بالخسارة الفادحة التى جرت فصولها فى التل الكبير؟ كل ما حدث من وجهة نظرهم ليس سوى جهد ضائع صورته خيالات جامحة لا رجاء فيها، وليس سوى صيحة أطلقها بعض الرجال الذين لم يهدفوا إلى شىء سوى تحقيق رفعة وعلو شأنهم، غافلين تماما عما يمكن أن يحدث معهم يوم الحساب عندما يعرضون أمام الله جل جلاله».
أعتبر أن هذه الجملة التى لخص بها الكاتب ما يفعله البشر فى أرض مصر، وكيف ينهش اللصوص والهباشون حقها من جيل إلى جيل، هى أعظم جملة قيلت فى الرواية منذ بدايتها، لأنها جملة تلخص حال البشر فى كل العصور وتجعلنا نتوقف أمام عظمة الحدث وهو الوقوف بين يدى الله، لكل من نسى أن هذا اليوم آت لا محالة.