رامي المتولي يكتب: تناقضات المصريين.. وصراع السلفيين والمتحررين فى "شيخ جاكسون"
لفيلم «شيخ جاكسون» نصيب من عنوانه ما بين النقيضين فى مقطعيه يغزل المخرج عمرو سلامة مع الكاتب عمر خالد بعذوبة شديدة حالة الجمع بين المتناقضات التى ربما تعد من أبرز الصفات التى تميز المصريين، الفيلم يرصد بدقة وبأسلوب معاصر الكلاشيهات الأساسية المؤسسة لوعى معظم مواليد الثمانينيات والأساطير المنسوجة حولها كما يرصد بشكل ما تغيرات ضخمة مرت على المجتمع ككل تحولت خلالها تركيبة المصريين الاجتماعية والثقافية أيضًا من النقيض للنقيض.
يتتبع الفيلم قصة حياة شخص واحد متعدد الكنايات، بداية من مراحل تكوين وعيه صغيرًا وصولًا لمرحلة متقدمة من شبابه دون أن نعرف اسمه الحقيقى إلا قبل النهاية، ليكون إخفاء الاسم والاعتماد على الألقاب أول أدوات مخرجه ومؤلفه عمرو سلامة التى استغلها لينسج ملامح شخصية صاحب الألقاب المتعددة من دودو طفلًا (عمر أيمن) الذى يتعرف على مايكل جاكسون من حب طفولته، ثم دودة/ جاكسون مراهقًا (أحمد مالك) وصولا لـ الشيخ شابًا (أحمد الفيشاوي) دون أن يُذكر اسم الشخصية الحقيقى، الأمر الذى عمق الفكرة الرئيسية وهى العوامل المختلفة التى مرت بها الشخصية وحولتها لمجموعة من المتناقضات التى تعيش معًا فى نفس الجسد لتتحول فى النهاية لحالة صحية تستطيع التعامل فى الحياة بهذه المتناقضات دون أى مشكلة فلا مستقبل بلا تقبل للماضى ومحطاته التى أدت لهذه النهاية.
استخدام الأسماء ككل فى الفيلم خيار ذكى من المخرج دودو كطفل مدلل يعيش فى فقاعة أسرته يتحول إلى دودة والتى نطقها الأب كابتن هانى (ماجد الكدواني) بطريقة تحقيرية دلالة على الضآلة بعد مشهد الديسكو، والذى تعرض فيه جاكسون للضرب من قبل الحارس وهو موقف متناقض ومزدوج، بمقاييس الرجولة هو فشل فى امتحان والده ووصمة بالعار وانتفاء صفة الرجولة عنه، فى حين أن حبيبته فى مرحلة المراهقة شيرين (سلمى أبو ضيف) قرأت الموقف عكسيا وهو الذى قربه منها لحد إعجابها به.
اختيار أسماء الشخصيات أيضًا يدور فى نفس المنحنى، الطبيبة النفسية التى منحته الطريق للسكينة تدعى نور (بسمة)، والخال الذى كفل له الحنان فى مقابل قسوة الأب يدعى عاطف (محمود البزاوي)، وغير ذلك من الأمثلة المتعددة التى تدعم نفس فكرة استغلال عمرو لفكرة الأسماء لتكون عاملاً مساعداً فى السرد وصولا لاسم جاكسون الحقيقى الذى يدعم فكرة البقاء بترك ميراث ليس فى صورة أموال ولكن قيم وأفكار وخبرات حياتية وشعورية تنتقل من جيل إلى جيل.
المعظم يتعامل مع الأيقونات والأفكار كقوالب غير قابلة للتعديل ينسج حولها أساطير وشائعات تؤثر فيما بعد فى طريقة تناولها والتعامل معها وتقبلها من عدمه الرمز الأول هو مايكل جاكسون الذى يراه الأب مخنث وهو بالطبع إسقاط لكم الشائعات والخرافات التى تداولها المصريون فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى والتى كانت متضادة ومتناقضة، منها إسلامه ومدحه للإسلام كدين والعكس أيضًا، هذا بخلاف الأساطير التى نسجت حول هويته الجنسية وتحول لونه من الأسود للأبيض، والكثير من التفاصيل التى كانت لا تجد أى غضاضة فى الانتشار والنقاش بين جموع المصريين دون التوقف لحظة لمعرفة ما نقول.
من هنا نشأت أول صدمة فى حياة دودو حول مايكل جاكسون الذى تفضله الطفلة التى لفتت نظره إليها، ليتنازع شعوره ما بين رؤية أبيه مدرب كمال الأجسام الرجل الملئ بهرمون تستوستيرون، ووالدته الرقيقة التى تحب الاستماع لمايكل، ثم تتطور حالة الاهتمام كمراهق بأهم رموز الفن الشعبى فى العالم لحالة تقمص إرضاء لحب طفولته شيرين ويصرف كل ما يملكه من نقود فقط لمحاولة نيل جزء من اهتمامها وهو يعلم أنه يعرض نفسه لعقاب قاسٍ من أبيه، حتى يصل لتحوله الأخير والذى بدأ بالربط بين مرض امه وحبيبته والذى دفعه لترك كل شىء خلفه حتى أبيه وتحول من النقيض للنقيض، من صورة وانعكاس لأيقونة عالمية إلى شيخ سلفى على شاكلة خاله عاطف (محمود البزاوي) يردد كلامه ويعمل فى نفس المجال، ليصبح كلاشيه وصورة أخرى رائجة للسلفى فى مصر أو «بتاع ربنا» كما كان يحلو للمصريين توصيفهم وقتها، السلفيون كانوا ايقونات محلية مصرية هذه المرة وكان معظمهم حتى وقت رواية الأحداث (5 يونيو 2009) يحظون باحترام ودعم شعبى جعلهم المفضلين لإمامة الصلاة عن موظف أكبر مؤسسة دينية فى مصر وهى الأزهر.
ليضيف عمرو عنصر الجذب والتشويق إلى فيلمه لجأ إلى الحيلة الكلاسيكية الشهيرة -التقديم والتأخير- والتى صدر من خلالها أحمد الفيشاوى أحدث نسخ شخصيته الرئيسية تتأثر بموت المطرب الشهير ليبدأ فى سلسلة من التغيرات النفسية الداخلية التى لا يلاحظها اى شخص آخر سواه، ويتخبط محاولا إيجاد الحل وذهابه لطبيب العيون يقوده للطبيبة النفسية والتى تعد حيلة درامية أخرى وسبب فى كشف أسرار ماضى هذه الشخصية والتى تتحول من التقليدية والنمطية إلى التفرد بما تحمله من ذاكرة مجتمعية مميزة، أسئلة الطبيبة التى يجيب عنها الشيخ أصبحت هى المدخل للعودة إلى الماضى التى تعامل معه عمرو بتقديم وتأخير أحداث الفيلم والفلاش باك ولم يعتمد على السرد الخطى ليزيد من جرعة التشويق ويضاعف حالة الغموض بأن يخفى اسم الشخصية الحقيقى متعمدًا ويستخدمه فى النهاية ليصل إلى مبتغاه.
التقديم والتأخير المتعمد فى الأحداث مدعوم بمونتاج يُدخل المشاهد ويُخرجه من الأزمنة المختلفة بقطع حاد مصحوب بتفصيلة أو صوت الشيخ نتيجة تأثره بما يذكره بماضيه، فصل بينهم موضات الملابس المختلفة عبر الحقب الزمنية الثلاث ووجود مراحل عمرية أصغر من الأبطال، بالإضافة لتصميم الإنتاج المختلف ليعبر عن هذه الحقب الزمنية.
موت مايكل جاكسون هو أبرز الرموز التى استغلها عمرو لينتقل بالزمن للماضى لنتعرف على العلاقة بين دودو ومايكل، أيضًا حساب شيرين (ياسمين رئيس) على موقع فيس بوك فى مرحلة عمرية أكبر وقد استمر شغفها بالموسيقى وتحولت لـ One Women Band، منه نعقد مقارنة بسهولة بين مشهدين الأول بطليه دودة جاكسون (أحمد مالك) وشيرين (سلمى أبو ضيف) فى مرحلة المراهقة التى انجذبت للفتى الذى يعشق مايكل جاكسون لحد الجنون وتهيئ له الجو ليقبلها، ولكن مرضها واستخدامها أداة الاستنشاق المخصصة للأزمات الصدرية والتى تعد تفصيلة هى الأخرى نقلته بالزمن للمرة الأولى التى تعرف من خلالها على شيرين وهو نفس اليوم الذى ماتت فيه والدته التى كانت تستعمل نفس أداة الاستنشاق.
يهرب دودة من شيرين ومن والده ويلقى بنفسه فى أحضان خاله، فى مقابل المشهد الثانى بعد الارتداد العنيف وفيه الشيخ (أحمد الفيشاوي) يتواصل مع شيرين (ياسمين رئيس) التى هضمت خبراتها الحياتية بشكل مختلف وأصبحت كياناً مختلفاً تماما مستقلاً بشدة تتذكر إعجابها القديم، والهدية التى جلبها لها وهى آلة الهارمونيكا لكنها ترفض بشدة أن يستعيد الشيخ الماضى بعد محاولة تقبيلها لتصده بعنف وتغلق بمنتهى القوة إحدى الدوائر المفتوحة فى حياة هذا الشاب المتناقض.
تعبيرات عمرو البصرية واضحة كما دعم المونتاج رغبته فى المقارنة بين المشهدين السابقين ليدلل على التغيرات الجذرية فى شخصيتى دودو ودودة الشيخ وشيرين، عبر ايضًا عن التمزق الذى يعصر الشيخ ويهدم كل الثوابت التى كونها فى 15 عاماً من خلال ستيكر لصقه هو فى مرحلة مبكرة من الفيلم على زجاج مترو الأنفاق مطبوع عليه «سينتهى البلاء عندما تتحجب النساء» وقت لصقه فى المرة الأولى كان زاهيًا أخضر، وضعه الشيخ على الزجاج بعنف بعد أن شاهد الثنائيات من المحبين فى المترو، فى المرة الثانية بعد أن صدته شيرين وقارن حالتيهما يجلس مهمومًا لا ينظر لأحد وخلفه الاستيكر ممزقًا باهتًا.
لا يمكن القول إلا أن عمرو سلامة ولد من جديد، وصنع فيلماً جيداً جدًا فى معظم العناصر ما يدل على أنه كان شديد التركيز فى كل التفاصيل و استمر لوقت طويل يدرس كل العناصر وعلاقتها ببعضها البعض ليصنع فى النهاية هذه الشبكة المترابطة، ولو أن اختياره للأدوار النسائية الرئيسية ليس موفقًا عدا سلمى أبو ضيف إلا أن باقى العناصر تخدم على بعضها البعض منها تصميم الرقصات التى تعبر عن حالة «مايكل جاكسون» المصرية والتى تختلف تمامًا عن صورته الحقيقة، رقصة الجامع كمثال، أو تأثر حلم الخوف من القبر بأشهر فيديو كليب لمايكل جاكسون فى مصر والذى حمل عنوان أغنيته Black Or White والذى تعود شهرته فى مصر لوجود الطفل الذهبى والشهير وقتها ماكولاى كالكين فى مقدمة الكليب يحاول والده اثناءه عن سماع الموسيقى العالية فيقرر الابن الانتقام ويجعل والده يطير مخترقًا سقف المنزل وهو ما حدث للأب هانى فى الحلم، كما حقق هذا الفيديو كليب شهرة كبيرة بسبب الخدع البصرية التى ميزت نهايته تتحول خلالها الوجوه الباسمة على اختلاف ألوانها بشكل مبهر وقتها، لكنه بالمقاييس الحالية ساذج ربما لهذا السبب لجأ عمرو للتناص مع الفيديو كليب القديم وجعل جرافيك الحلم طفولى ساذج لأن الشيخ لم تتطور أدواته ولا خبرته البصرية منذ هذه المرحلة حتى أن أغلفة شرائط الأدعية التى هو المنفذ فى تصميمها تخرج شبيهة بـ بوسترات ألبومات مايكل جاكسون.
اختيار هذه الأغنية تحديدًا أكثر من موفق ليس لتفوقها عالميًا ولا الأسباب الخاصة بشهرتها عند المصريين، بل لمعانى كلماتها التى تعد أكثر ما يعبر عن رؤية عمرو فى الفيلم، نبذ الخلافات وتقبل الاختلافات ويؤكد بشكل أو بآخر على التناقضات والازدواجية فى الأحكام والتصرفات التى يتعامل بها السواد الأعظم من المصريين عمومًا وبحدة ترفضها كلمات الأغنية، لذلك يأتى آخر مشاهد الفيلم جامعًا لكل المتناقضات مصالحًا الماضى متطلعًا لمستقبل مختلف أكثر استقرارا وانفتاح على الحياة أيا كانت المعتقدات.