د. رشا سمير تكتب: ثلاث خطوات إلى المشنقة
السيرة الذاتية لكاتب سورى كردى قادته خطواته إلى غرفة الإعدام
«ثلاث خطوات توصلك إلى الله.. بخطوة تترك الدنيا.. بالأخرى تترك الآخرة.. وبالخطوة الثالثة تصل»، تلك الكلمات التى قالها الحلاج كانت هى الكلمات التى أوحت للكاتب السورى الكردى جان دوست الذى يحمل الجنسية الألمانية روايته (ثلاث خطوات إلى المشنقة) التى كتبها ونشرها بالكردية فى إسطنبول، ثم عاد ونقلها بنفسه إلى العربية لتصدر عن «دار الساقي» للنشر فى 223 صفحة.
إنها رواية عميقة تحكى فى سلاسة سيرة ذاتية للشيخ سعيد بيران أو ثورة الشيخ سعيد النقشبندية هى ثورة قامت فى جنوب شرق تركيا ضد سياسة التتريك والتعسف التى انتهجتها حكومات مصطفى كمال أتاتورك المتعاقبة بحق الأقليات.. مارس الشيخ سعيد بن الشيخ محمود بن الشيخ على بيران النشاط السياسى منذ تأسيس الجمعيات والمنظمات الكردية بين الأعوام (1908-1923).
وفى شهر أبريل 1925 يتم اعتقال الشيخ سعيد مع عدد من قادة الانتفاضة التى خبت نارها شيئاً فشيئاً.. وفى نهاية شهر مايو حوكم الشيخ سعيد وقادة الانتفاضة الآخرون، وصدر حكم الإعدام بحقه مع 47 من قادة الثورة، نفذ حكم الإعدام فيهم فى 30 مايو 1925.. وأمام حبل المشنقة بدا الشيخ سعيد صامدا قويا وقال جملته المأثورة: «إن الحياة الطبيعية تقترب من نهايتها، ولست آسفاً قط عندما أضحى بنفسى فى سبيل شعبى، إننا مسرورون لأن أحفادنا لن يخجلوا منا أمام الأعداء».
ليست فقط قصة ثائر وقف فى وجه الظلم وحمل قضية وطن حائر فوق كتفيه، بل هى قصة بشر يبحثون عن وطن ليحتضنهم..إنهم أقلية مهمشة على الرغم من عددها الكبير..بشر ينقبون عن عدالة غائبة وسط أنقاض زلزال أحدثته المجتمعات الفاشية لتقضى على كل الأصوات الأخرى ويبقى صوتها..
لقد بلغت خسائر الكرد عقب حادثة إعدام الشيخ سعيد ومؤيديه إلى تدمير 900 بيت وحرق 210 من قرى الأكراد، فيما وصل عدد القتلى إلى 15 ألفا، فضلاً علي نهب ممتلكات وثروات كل من وصلت إليهم أيدى الجنود الأتراك الذين مازالوا حتى اليوم يحاربون الأكراد ويعارضون استقلالهم..كما أسفر ذلك الحادث عن قمع هذه الحركة التى تزعمها الشيخ سعيد وعنها تم تهجير مئات الآلاف من الكرد والعرب والآشوريين إلى سوريا..
إنه تاريخ حزين، قرر أن يتبناه أحد أبناء تلك القبائل محدثا بكلماته ثورة جديدة على الظلم.
ولأن مواقع التواصل الاجتماعى قصرت الطُرق وقربت المسافات كثيرا.. فقد كان من اليسير أن أجد الروائى جان دوست على صفحات الفيسبوك.. وكان لى مجموعة استفسارات منه حول روايته، فبدأت بسؤاله:
■ «لماذا هاجرت من سوريا إلى ألمانيا ولماذا مازلت متمسكا بالكتابة عن وطن لا تعيش فيه؟»
أجابنى: «هربت من سوريا عام ٢٠٠٠ بسبب كتابتى باللغة الكردية الممنوعة فى سوريا والمحاصرة».
■ سألته: «كيف جاءتك فكرة الرواية وعنوانها الشيق؟
أجاب: «الفكرة جاءت من جملة للصوفى الحلاج قال فيها: (ثلاث خطوات توصلك إلى الله، بخطوة تترك الدنيا، بالأخرى تترك الآخرة، وبالخطوة الثالثة تصل) وقصة الشيخ سعيد حقيقية فهو ثائر نهض فى وجه الأتراك لكنهم أخمدوا ثورته وشنقوه فى نهاية يونيو ١٩٢٥.. بطبيعة الحال لجأت إلى الخيال فى مفاصل كثيرة من العمل».
■ وسألته السؤال الذى دار بمخيلتى كلما غصت أكثر فى أحداث الرواية.. السؤال الذى ربما أراد به المؤلف قول ما لم يقله صراحة بين السطور:
■ «ماذا تريد أن تقول للقارئ ولم تقله بين السطور؟»
قال بعفوية: « أقول لكم، الكُرد أقرب جيران العرب لهم، وقد آن الأوان للتعرف عليهم ومد جسور المحبة مع هذا الشعب المحب للحرية والسلام.. الرواية جزء من تاريخ هذا الشعب».
بداية النهاية:
لا تبدأ الرواية بحسب توقعات القارئ باندلاع الثورة، بل تبدأ من النهاية.. من رجلين يقتادان الشيخ سعيد إلى خطوته الأخيرة حيث المشنقة فى انتظاره.
ويتذكر الشيخ آلاف المرات التى صلى فيها على الموتى، وكان يردد دائما فى مجالس العزاء كلمات باتت تطن فى رأسه وهو يسير نحو المشنقة:
« الموت هو الوجه الآخر للحياة، ولابد للمرء أن يعاين كلا الوجهين».
لم يبق بين الشيخ والمشنقة سوى ثلاث خطوات.. خطوتان إلى المنصة ثم خطوة ثالثة وأخيرة إلى الكُرسى الموضوع تحت الحبل!..إنها ثلاث خطوات ويصل إلى حبل المشنقة، يصل إلى حافة يروى ظمأه فيها ويفقد كل أمل فى النجاة.
1- الخطوة الأولى:
لم يكن يتذكر خطوته الأولى حين كان طفلا ولكن كعادة الأطفال، أمه روت له مرات..
مازالت خطواته تأخذه إلى مكان أكثر قربا من اللحظة الحاسمة، والأجساد المتدلية من المشانق تهتز مع هبوب نسمات رخية..وينظر إلى أجسادهم المتدلية ويقول الشيخ:
« اللهم إن هؤلاء ثمرات الثورات فتقبلهم منا قرابين لك».
وفى خضم الخطوات يتذكر الشيخ سعيد المراكب التى كان يسافر عليها التجار والفارون من العسكرية والقرويون والقتلة والهاربون من العدالة والفقهاء والملالى، الأرمن والآشوريون والكرد والأتراك والفرس..حيث كانوا يسافرون مع آمالهم وأحلامهم صوب مدن تسند رؤوسها إلى ضفاف دجلة..
ويرجع الشيخ ونرجع معه بذكرياته إلى «موش» طالبا للفقه..وتلمع تلك الثلاث سنوات التى قضاها الشيخ..فتذكر شجرة التين وزملاءه هناك..حتى الدرويش خضر البوطى الذى لم ينس صورته أبدا لمع فى مخيلته وكأن وداعه كان بالأمس.
2- الخطوة الثانية:
مع الخطوة الثانية تذكر الشيخ سعيد تلك الفتاة الجميلة التى كانت تعمل فى بيتهم وكانت تدعى (بريخان) وكان ذلك عقب عودته من موش..لم يستطع سعيد أن يمنع نفسه من أن يلمح تلك النظرة الحزينة فى عيون بريخان..وكانت تلك النظرة تمتد إلى أحلامه التى كانت تسكنها تلك الفتاة الجميلة.
الغريب حقا أن تلك القصة القصيرة من فورة الشباب التى صاغها سعيد فى صيغة الحُب تبدو وكأنها قد انتهت بكل هدوء كما بدأت..فيوم قرر والده أن يرسله من جديد إلى موش ليستكمل تعليمه، ودع أباه وأمه ثم امتطى صهوة جواده..فتبعته بريخان بعينين مغرورقتين بالدمع ولم تقل شيئا، فقط أعطته منديلا صغيرا، دسه فى كُم ثوبه ومضى..
ويأخذنا الكاتب إلى تفاصيل كثيرة فى علاقة الشيخ ببريخان ولكنها فى الواقع تفاصيل متكررة ومتشابهة إلى حد جعل الصفحات تفتر بين أصابعى، فقد كنت أتوقع أن تكون الخطوة الثانية أكثر إثارة من الخطوة الأولى ولكن حدث عكس ما توقعت..
انتهت الخطوة الثانية بانتهاء قصة بريخان وسقوطها فى بئر سحيقة وراء دلو حاولت أن تمنعه من السقوط فأودت بحياتها من أجل إنقاذه!..وتخرج بريخان من الأحداث كما دخلت، دون أى عنصر جذب حقيقى..
تنتهى الخطوة الثانية ويقترب الشيخ من حبل المشنقة المتدلى أمامه..ومن ألف قامة بريخان حتى ألف المشنقة كان عُمر من السنوات يجرى مثل نهر مراد..يجرى فى الأودية، فى المرتفعات والمنحدرات ويسقى خياله الظمآن.
3- الخطوة الثالثة:
«هيا أصعد هذه خطوتك الأخيرة»
وقبل الخطوة الأخيرة يتذكر الشيخ عيد الأضحى، حين ذهب مع ابنه على رضا إلى بدليس لزيارة بعض حلفائه ومريديه..كانت طبول الحرب الكبرى قد تمزقت ولم يعد يسمع فى الأجواء سوى صدى حشرجات مخنوقة تصدرها الصدور..
وبغير ميعاد يلتقى الشيخ بالدرويش خضر البوطى..
ويخرج الشيخ سعيد بفتوى يُرسلها إلى مُفتى منطقة «ليجة» تجرم قتل الأطفال والنساء من الأرمن ويُلاقى هجوما واسعا، يتصدى له بكل شجاعة..
كان الشيخ يعلم بوجود مخبرين سريين للحكومة يوصلون إليها كل تحرك مشبوه فى المنطقة، هكذا حاول أن يُخفى طبيعة لقائه بالشيخ يوسف ضياء بك الذى جاء ليقابله فى السر..فى ذلك الاجتماع تحدث يوسف بك للشيخ سعيد بقرية قول عن أهداف جمعية استقلال كردستان وأكد عليه أن الناس لو لم تأت لاستقلال كردستان لسوف يهبون لنجدة دينهم على الأقل..
4- الخطوة الأخيرة:
ويبقى سؤال..سؤال تمنى لو سمع الشيخ إجابته وهو يقف فوق الكُرسى منتظرا أن ينسحب من تحت قدميه..
« يا إلهى..يارب..إنه ليس سوى سؤال وحيد، سؤال صغير أطرحه على رب كبير..إنه سؤال مؤجل لم يسعفنى الخيال، أنا عبدك أطرحه عليك..إلهى».
انتظر الجندى المتأهب لسحب الكُرسى أن يكتمل السؤال الذى أخذه الفضول فجأة ليعرفه..
ولكنه لم ينتظر طويلا، فقد سحب الكرسى من تحت قدميه.. ومن بين أشعة الشمس الذهبية تظهر بريخان.. وتقترب من الشيخ الذى يضمها إلى صدره فتقول له:
«هذه خطوتك الرابعة، روحى فداك».. ويختفيان فى الأفق..
5- صرخة وطن:
«ثلاث خطوات إلى المشنقة» هى الخطوات التى تفصل الشيخ سعيد عن الموت، إنها للقارئ مجرد خطوات مشاها الرجل ولكنها فى مخيلة الرجل ذاته هى زمنه الداخلى وعمره كله، أى سبعون عاماً من الكفاح والثورة والتمرد..من لحظة ميلاده حتى أصعب لحظة من الممكن أن تمر بعمر إنسان وهى لحظة وصوله مكبل اليدين بالأصفاد، يحيط به حارساه من الجانبين وهما يقودانه إلى حبل المشنقة الذى يراه بعينيه متدليا أمامه فيجتر ذكرياته وكأنها عمرا من الفخر والألم..
لغة الكاتب السردية تتمتع بوصف مختلف لأنها تحمل الصبغة الكردية بعاداتها، فهناك ألفاظ احتاجت إلى شرح الكاتب فى هوامش وهناك مواطن ظهر فيها مذاق الأكراد ودفاعهم المميت عن حريتهم وعن استقلالهم الذين سعوا إليه كثيرا.. الأكراد دفعوا ثمنا باهظا بعد الحرب العالمية الأولى..فمات من مات وهُجر من هُجر وبقيت إرادتهم الحرة للاستقلال هى الحلم الذى لم يخبو أبدا..
إنها رواية تستحق القراءة حتى لو بدت أحداثها بعيدة عن اهتمام بعض القراء.