د. نصار عبدالله يكتب: ذكريات فاطمة اليوسف «3»
ما زلنا مع الكتاب الممتع «ذكريات فاطمة اليوسف» الذى كتبته الفنانة المقتدرة، وفيما بعد الصحفية المناضلة من أجل الديمقراطية والحرية التى أنشأت مجلة كانت تستهدف فى البداية أن تكون فنية خالصة لكنها سرعان ما أصبحت واحدة من أشهر المجلات السياسية المعارضة، وقد قسمت كتابها كما ذكرنا فى الأسبوع الماضى إلى قسمين رئيسين هما: «أيام الفن» وأيام الصحافة، وفى: «أيام الفن» روت لنا كيف كان لقاؤها وهى لم تزل طفلة صغيرة، لقاؤها بمكتشف موهبتها الفنية «عزيز عيد» الذى كان قد رآها تجهش بالبكاء نتيجة لنظرة مخيفة سددها إليها الفنان عمر وصفى بعد أن تسللت من مقاعد المتفرجين إلى كواليس المسرح، وطلب لها عزيز عيد كما تروى فى مذكراتها «واحد شربات».. وأراد أن يستدرجها إلى الحديث فأخذ يحدثها عن الروايات والتمثيل ويسألها أى الروايات رأت، وبدأت الفتاة الصغيرة تتحدث وعزيز عيد يشجعها حتى استراحت إليه وشعرت كأن كل ما يحيط بحياتها من الوحدة والألم والضعف والشرود يسقط عنها. ووجدت فى هذا الرجل القصير المحدودب أبا جديدا..ولم تكن قد عرفت حنان الأبوة قط، وافترقا فى ذلك اليوم صديقين، ثم أخذت الفتاة تكثر من ترددها على المسرح ورؤية الروايات، ولا تنسى أبدا أن تزور هذا الأب الجديد عزيز عيد!، ثم حدثت بعد ذلك قصة طريفة دفعت بها إلى خشبة المسرح فى دور غريب، فقد عهدت إليه الفرقة بإخراج رواية اسمها: «عواطف البنين»، وكانت الرواية تحتوى على ثلاثة أدوار نسائية: البنت، والأم، والحفيدة، وكانت الفرقة تضم ست ممثلات، كلهن سوريات مسيحيات، وكن جميعا فى سن الشباب، وعهد عزيز بدور البنت إلى أصغرهن: صالحة قاصين، وبدور الأم إلى إبريز ستاتى، وبقى دور الجدة العجوز الذى رفضت أن تمثله أى ممثلة من الممثلات الباقيات فتبدو بتمثيله عجوزا أمام المشاهدين وأمام زميلاتها الأخريات !!..وذهبت محاولاته لإقناعهن عبثا!.. وأخيرا صاح بأعلى صوته: أتعرفون الفتاة الصغيرة التى تزورنى هنا أحيانا، سوف أعطيها دور الجدة!! ولم ينتظر عزيز عيد حتى يسمع تعليقهن، بل أسرع إلى الفتاة الصغيرة يستدعيها، ويقترح عليها أن تقف على خشبة المسرح فى دور الجدة !! بينما كانت عيناه تبثان فيها الشجاعة والثقة التى كان يبثها فى كل من حوله، ..وترك عزيز عيد المسرح أسبوعا كاملا تفرغ فيه لتدريب تلميذته الصغيرة، وبذل معها جهدا لعله لم يبذله مع الكثيرين.. أخذ يعلمها أولا كيف تنطق الكلام بصوت ضعيف، وكيف تجعله يرتعش ويتهدج، ثم أخذ يعلمها كيف تمضى بطيئة متثاقلة، وكيف تلقى ابنتها، وكيف تحنو على حفيدتها فى الرواية، بينما كانت ابنتها فى الواقع تكبرها بما يقرب من ثلاثين عاما!!. وحين جاء اليوم العصيب. انهمك عزيز عيد يلبس تلميذته الثياب التاريخية الثقيلة ويضع لها الماكياج وهو يبدو كالمقبل على امتحان يريد أن ينجح فيه بأى ثمن بينما باقى الممثلين لا يكفون عن الضحك والتهريج، ومن بينهم عمر وصفى الذى كان يصيح: عزيز مجنون.. وعايز يعمل تقليعة!.. وأخيرا ارتفع الستار، ودخلت الفتاة الصغيرة لتمثل دور الجدة فى سن السبعين، ..كانت تبدو على المسرح وكأنها فى السبعين حقا راسخة فى دورها، وانبهر بها الجميع، وكان عزيز عيد أول المنبهرين، مما جعله يؤمن بنبوغها فيواصل بعد ذلك تعليمها بكل قواه، وأحضر لها شيخا يلقنها دروسا فى اللغة العربية نظير خمسين قرشا فى الشهر كان يدفعها من جيبه.