جريمة فى الحى الهادئ.. المعادى تقترب من مصير المرج وحلوان

العدد الأسبوعي

المعادي
المعادي


السفارات وفيللا أنور باشا حائط الصد الأخير

■ أسرار مصر فى زمن الاحتلال وحتى مفاوضات استعادة طابا ترويها الضاحية الراقية

■ كيف تحولت فيللا ثابت إلى حارة 9.. و«رأفت» شهدت نفس مصير فيللا زينب الوكيل


كانت الإقامة فى مصر مقصدا للأوروبيين وأثرياء العالم، منذ نحو قرن، وكان الجمال هو اللمسة المسيطرة على أغلب شوارع المحروسة، وبالطبع فإن القاهرة بوصفها العاصمة كان لها النصيب الأوفر من الأبنية الراقية، والمساكن الأنيقة، خاصة فى مصر الجديدة، وحدائق القبة، والمعادى وحلوان، وبمرور الزمن وتوالى السنين والأحداث، تخلت أحياء المحروسة تدريجيا عن كبريائها، وتحولت ما يقرب 180 درجة فى اتجاه القبح.

يعد حى المرج، النموذج الأمثل حاليا لاستبدال الجمال بالقبح فى مصر، ففى تلك المنطقة الواقعة بين حدود محافظتى القاهرة والقليوبية، كانت المروج الهادئة التى يغلب عليها المساحات الخضراء الشاسعة، تروى بمجرى مائى صغير لا يزيد عرضه على المترين، جدرانه مكسوة بالفسيفساء الرقيقة، التى صممها المهندس الفرنسى شارل إيكونتا، مالك قصر إيكونتا بالمرج فى عشرينيات القرن الماضى.

وضع المهندس الفرنسى عددا كبيرا من الأسماك فى هذا المجرى المتصل بنهر النيل، حتى تكتمل روعة الصورة، التى كانت نسخة من مزارع اللافندر بضواحى فرنسا.

قبل أكثر من 120 عامًا كانت المرج عبارة عن سلاسل متصلة من الفيللات وقصور علية القوم، مثل قصر نعمة هانم مختار، شقيقة الملك فؤاد، وعمة الملك فاروق، وقصر زينب هانم الوكيل، زوجة مصطفى النحاس، وأيضا عدد من الأوروبيين منهم المثال والفنان الإيطالى الشهير جيوفانى كارفيلى.

بعد ثورة يوليو 1952، تم تأميم أغلب تلك القصور والعزب الملكية، ضمن برنامج الإصلاح الزراعى، الذى أقره مجلس قيادة الثورة، وشهد قصر زينب الوكيل، فيما بعد، التحفظ على اللواء محمد نجيب، رئيس الجمهورية.

منذ ذلك التاريخ بدأ غول الإهمال يلتهم المرج تدريجيا، حتى قبعت المساحات الخضراء خلف تلال القمامة، والأبنية المرتفعة المشوهة.

بدأت الكارثة فى الستينيات من القرن الماضى، عندها بدأت حمى بناء العمارات الشاهقة، والأبنية الأعلى من 5 أدوار فى القيام بدورها كمعول هدم لأسس البناء العلمية، التى تراعى التخطيط العمرانى، كإحدى أدوات التعمير.

يقول محمد محمود، 90 عاما، أحد سكان المنطقة، إن تلك الفترة وحدها شهدت بناء أكثر من 2000 بناية جديدة، دون وجود بنية أساسية مؤهلة لاحتمال هذا العدد الكبير من السكان، وبالفعل وتحت الضغط، لم تتحمل شبكة الصرف الصحى هذا الضغط الهائل، فتم توجيه الصرف إلى المجرى المائى الذى صممه المهندس الفرنسى شارل إيكونتا، وفيما بعد أصبح اسمه «الرشاح».

تدريجيا قضت المياه الملوثة لـ «الرشاح» على الزراعات والمساحات الخضراء، التى صمم من أجلها، قبل أن يتحول إلى مكب للقمامة، والمخلفات الصناعية التى نتجت عن زحف آلاف الورش إلى المنطقة التى خرجت تماما عن رقابة الدولة. تحول رهيب لم يتخيله أحد خلال سنوات قليلة.

حاليا لا تبدو ضاحية المعادى الراقية بعيدة عن هذا المصير، فرغم صمودها إلا أن القبح يطاردها، فهو لا يعرف وطننا، فقط يفتح الإهمال الأبواب أمامه، ليسيطر بدوره على مجريات الأحداث.

كانت المعادى فيما مضى نقطة التقاء قوافل قدماء المصريين والرومان والعرب المتجهة من وإلى السويس، عبر ميناء «القلزم القديم»، وهو ما فرض عليها بالتبعية لأن تصبح ملتقى للثقافات المختلفة، وكانت تلك القوافل تتخذ طريقها من البحر الأحمر عند السويس، عبر الممرات القديمة فى الصحراء المتاخمة للمعــــادى، لتحط رحــــالها قــرب «المعدية»، ثم يستقلون المراكب إلى حصـن بابليون، أو إلى الفسطاط، ويقال إن اسم المعادى يرجع إلى وجود عدة «معديات» تقوم بنقل الركاب والبضائع عبر ضفتى نهر النيل.

أنشئت ضاحية المعـادى الحديثة، على يـد الاحتلال البريطانى، منذ نحو 150 عامـا أو يزيـد، لتكون سكنا للضباط الإنجليز، وذلك على عكس الرواية التى روجها يهود بأنهم من أسسوا حى المعادى بطابعه الحديث.

فى أوائل القرن الماضى، وحتى الخمسينيات، كانت المعادى تضم قرابة 3600 فيللا ومنزل لا تزيد أطوالها عن عشرة أمتار عن سطح الأرض، وكان أغلب سكانها من البعثات الدبلوماسية، والسفارات، والخبراء الأجانب، بالإضافة إلى أثرياء المجتمع المصرى.

شيدت فيللات المعادى، ومبانيها على شكل مدرج بحيث يتمتع آخر مبنى فى الشارع برؤية النيل، لكن الفترة التالية للخمسينيات شهدت تحولا رهيبا، حيث شهدت المنطقة رواجا فى عمليات البيع العقارى، الذى دشن بداية التحول الكبير فى تغير التركيبة السكانية للمنطقة.

فى أوائل الثمانينيات بدأت عمليات بناء البنايات العملاقة القبيحة، بدلاً من الفيللات والأبنية العصرية الحديثة، وهو ما عزل الضاحية الهادئة بعيدا عن النيل، خلف سياج خرسانى يشبه نقطة الانطلاق فى سباق تدمير فيللات المعادى.

بحلول 1985 كانت المعادى قد خسرت قرابة 22% من فيللاتها، وفى الخمس سنوات التالية تم هدم 60% من تلك الثروة العقارية الفريدة، والاستيلاء على 15% من المساحات الخضراء، ورغم قرار الحكومة فى التسعينيات بتجريم هدم الفيللات، إلا أن تلك الفترة كانت فترة تألق فساد المحليات، وخسرت المعادى قرابة 82% .

لم تكن الكارثة فى هدم الفيللات فقط، بل أدت حمى البناء الجديدة إلى استقرار كم هائل من ورش عمال البناء حول أطراف المعادى، ثم بدأت تلك الورش فى الزحف تدريجيا إلى قلب الضاحية، حتى أصبحت أغلبية محلات شارع الجزائر ورشا للحجر الجيرى، والفرعوني.

على بعد أمتار من القرية الأوليمبية بالمعادى، أصبح شارع أحمد زكى، نموذجا صارخا للعشوائية التى تضم أكثر من 400 محل وورشة لصيانة السيارات.

منطقة «صقر قريش» التى كانت معدة لاستيعاب الطبقة المتوسطة من العاملين فى دائرة المعادى وطرة، أصبحت بالكامل منطقة للحرفيين، تنافس وكالة البلح، وجسر السويس.

فى قلب المعادى القديمة، هزمت العمارات الشاهقة السرايات والفيللات والأبنية الفخمة، وشهدت منطقة جامع فاروق، هدم أكثر من 30 فيللا، وفى شارع 84 اختفت أكثر من 60 فيللا من على وجه الأرض، بينها فيللا الخواجة موسيرى، مؤسس الجالية اليهودية بالمعادى، وكذلك ثلاث فيللات كان يملكها الخواجة مزراحى، الذى كان يعد أحد كبار رجال الصناعة فى عشرينيات القرن الماضى، ونجح ورثته فى الحفاظ على إحدى فيللاته عن طريق إهدائها للسفارة المكسيكية.

فى شارع 9، الذى كان يعد درة العقد فى حى المعادى، تحول إلى قطعة عشوائية فريدة، يكتظ بالمحلات التجارية، والباعة الجائلون، والصخب، ومنذ عامين تقريبا تم هدم آخر فيللاته الراقية، وكانت تحمل الرقم 100، وحاليا هى مبنى للبنك الأهلى المصرى، ومنذ 4 سنوات تم هدم الفيللا رقم 104، ولا تزال أنقاضها شاهدة عيان على ما يجرى من تدمير.

المهندسة إقبال محسن، إحدى ساكنات الحى الراقى، قالت إن السفارات لا تزال حائط الدفاع الأخير عن الضاحية، ضد تحولها لمنطقة عشوائية بالكامل، لن تختلف كثيرا عن مصير المرج.

وتستحق فيللا الراحل الدكتور فتحى لوزة، أشهر الأطباء النفسيين فى مصر، لقب ملكة جمال الفيللات القديمة الأنيقة بالمعادى، تحمل رقم 23 ن وتقع فى شارع 83 بسرايات المعادى، يعود تاريخ بنائها إلى أربعينيات القرن الماضى، وكانت فى الأصل مسكنا لأحد كبار أطباء الأسنان، وهو الدكتور إسحاق فيتا جيرشون، الذى كان يعمل طبيبا بالقصر الملكى، وطلب بعد زواجه من استير صموئيل، من المهندس المعمارى ماكس بيرديكيدس، تصميم تلك الفيللا.

وتعد فيللا رأفت فى شارع 84، نقطة التقاء المرج والمعادى، وشهدت التحفظ على الدكتور وحيد رأفت، أستاذ القانون، بناء على أوامر من الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، بسب رفضه انتهاك الضباط الأحرار للدستور، بعد تنازل الملك فاروق عن العرش.

لعبت فيللا رأفت، دورا مماثلا لدور فيللا زينب الوكيل، لكن الأولى شهدت واحدة من أهم مقابلات العصر الحديث، ففى أواخر الثمانينيات أرسل الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، الدكتور مفيد شهاب، إلى الدكتور وحيد رأفت، لسؤاله بشأن حل أزمة طابا، وخلال اللقاء أكد الدكتور وحيد رأفت، ضرورة اللجوء للتحكيم الدولى، ووافق مبارك، وطلب من «رأفت» أن يكون على رأس فريق المفاوضين والمحكمين فى تلك القضية التى انتهت بعودة طابا إلى مصر فى 19 مارس 1989.

فى واحدة من أسوأ كوارث فيللات المعادى، تظهر فيللا ثابت، التى صممها المهندس الشهير لويجى منهام، ويرجع تاريخ بنائها إلى سنة 1919، وتقع فى التقاطع بين شارع 9 مع شارع 83، وظلت لأكثر من 70 عاما مسكنا لعائلة إلياس بك ثابت، وفى مطلع التسعينيات قامت الأسرة بتأجيرها إلى سفير قبرص، ثم فجأة أصبح اسمها فى عام 2014 «حارة تسعة»، التى هى عبارة عن مجموعة من المطاعم وكافتيريات الوجبات السريعة. لتكتب نهاية واحدة من أهم فيللات المعادى.

فى شارع بورسعيد، قبعت فيللا جوليميس التى كانت تعد نموذجا معماريا فريداً، لسنوات طويلة، والفيللا واحدة من 10 فيللات متطابقة على مستوى الجمهورية، وتم بناء الـ 9 الأخرى بمدينة كوم أمبو بأسوان، فى ثلاثينيات القرن الماضى، كسكن للأجانب المسئولين عن إنتاج السكر، لكن هناك فيللا أخرى متطابقة تم بناؤها بمدينة يورك الإنجليزية، أوكلها المهندس البلجيكى ماكس بيرديكيدس، لحساب جورج جوليميس، المسئول عن تصدير السكر المصرى إلى أوروبا.

فى منتصف شارع 6، تقبع فيللا شاهين باشا، وتعود شهرتها لكونها تمتلك واحدة من أهم حدائق النباتات النادرة فى مصر وإفريقيا، على مساحة فدان، وقد أسس الفيللا الطبيب المصرى العالمى، حسن شاهين باشا، وزوجته سميرة هانم رفعت، ورغم تعلق الأسرة الشديد بالفيللا، وحديقتها الرائعة، إلا أن وفاة أصغر أبنائها فى حادث مأساوى، دفعها لهجرة حى المعادى برمته، واختارت السكن بمنطقة الزمالك.

بعد الحادث قامت الأسرة بتأجير الفيللا إلى السير هنرى ميتلاند ويلسون، قائد الجيش البريطانى فى مصر، وبها تم وضع خطط الدفاع عن البلاد حال تعرضها لغزو محتمل من القوات النازية، وخلال تلك الفترة تحولت الفيللا إلى خلية نحل، شهدت زيارات من كبار رجال الحياة السياسية فى مصر والعالم، وبعد أن ظلت الفيللا مهجورة لسنوات طويلة استأجرتها سفارة جنوب إفريقيا كمسكن لسفيرها بالقاهرة.

فيللا أنور باشا، التى تقع بشارع 205، هى أقدم فيللات الحى الراقى على الإطلاق، ويعود تاريخ بنائها إلى نهايات القرن التاسع عشر، وتحديدا فى عصر الخديو إسماعيل، وكان أنور باشا، رئيسا للديوان الملكى فى تلك الفترة.

تلك الفيللا لا تكاد تراها العين المجردة حاليا، بعد أن أصابها الوهن، وتصدعت جدرانها، وباتت مؤهلة للانهيار فى أى لحظة، وأصبح سورها الضخم يشكل خطرا داهما على طلاب المدارس، وحسب سكان بالمنطقة فإن الورثة، هجروا الفيللا بعد زلزال 92، لكن خفيرا عجوزا يأتى للاطمئنان على الفيللا مرة كل شهر، رافضا الحديث مع أى شخص.

رغم النداءات المتكررة لرئيس الحى بالتدخل لترميم السور على أقل تقدير، إلا أن اللا فعل كان سيد الموقف، خاصة أن القيمة الأثرية للفيللا لا تعنى أحدا.

وقبل نحو شهرين نشطت الجمعيات الأهلية بالمعادى، للحفاظ على البقية الباقية من هذا الإرث المعمارى الكبير، وذلك بجمع توقيعات من الأهالى للتصدى لزحف الأبراج، وبالفعل شهدت الضاحية نشاطا لأكثر من أسبوعين متتاليين، بدوريات منتظمة لأجهزة الحى والشرطة المدنية لوقف التدهور، ولكن ما أن هدأت الأمور، حتى بدأ المقاولون فى استئناف عمليات هدم الفيللات وبناء الأبراج.تتضح مأساة المعادى أكثر مع رفض الورثة تدخل الحكومة بحظر هدم الفيللات، فهم يرون أن التصرف فى ملكيتهم الخاصة أمر شخصى، لا يحق لأحد التدخل فيه، وبعضهم فى أمس الحاجة للبيع لظروف مالية طاحنة، كما أن هناك حكما للمحكمة الدستورية صدر فى عام 2006 بعدم دستورية الحظر، ويجد المقاولون على الدوام أبوابا خلفية للهدم والبناء.