فؤاد معوض يكتب: شادية.. القمر عندما يرقد مريضًا فى مستشفى المقاولين!
يا خبر!...
يا خبر!...
يا خبر!...
أصابنى فى مايو 1983 بالصدمة عندما نشرت الجرائد وقتها خبرًا غامضًا عن شادية يقول بأنها مريضة ودخلت المستشفى - فجأة - لإجراء جراحة عاجلة!.. تعددت الأقوال وأيضًا الشائعات حول غموض الخبر وأيضًا - لا قدر الله - حول حقيقة المرض!. الشائعات راحت تجرى على ألسنة الناس بسرعة كما قطار توربينى لا يتوقف على محطات! يا ترى هل هى تعانى من الصداع المستمر كما قال البعض أم من ارتفاع درجة حرارة الجسم التى لا تنخفض أم من الشعور بالتعب والإرهاق أم بأكثر من سبب آخر جعلها لا تقوى على النهوض وتسجيل الأغنية التى كانوا قد أعدوها لها بالمناسبة لتغنيها فى احتفالات عودة سيناء؟!.. كان الخبر - فى حد ذاته - مزعجًا للكثيرين من عشاقها وأنا واحد منهم!.. التليفزيون ساهم فى زيادة الإزعاج عندما أذاع لها فى إحدى السهرات سيرة كاملة لمسيرتها الفنية تخللتها أكثر من سبع أغان دفعة واحدة!.. إذن لابد وأن يكون فى الأمر حدثاً!
■ ■ ■
تربطنى بـ«شادية» علاقة إعجاب قديمة تعود إلى أيام أن دخلت سينما الشرق بالسيدة زينب للفرجة على أول أفلامها «العقل فى إجازة» معجبًا أشد الإعجاب بأغنيتها التى راحت تغنيها فى الفيلم وأنا أرددها معها «يا بابا ننة نام.. وابعد عن الأوهام.. غير ماما لو حبيت.. ح يجيلك يا بابا زكام»!.. كان هو نشيدنا القومى - يابابا ننة نام - أنا وأخواتى الذى نردده للوالد «أبو عين زايغة» ونحن أطفال ولا شىء سواه!
الإعجاب مازال مستمراً بل توطد أكثر عندما اقتربت منها شخصيًا وقد اعتدت على رؤيتها والجلوس معها يوميًا فى غرفتها بكواليس مسرح الفنانين المتحدين بشارع الشيخ ريحان أو فى «السويت» الخاص بها بفندق سان جويفانى بالإسكندرية الذى اعتدنا السهر فيه معها بعد انتهاء عرض «ريا وسكينة» ومعنا المنتج سمير خفاجى والراحل بهجت قمر والفنانة سهير البابلى ووالدة شادية التى سبقتنا من قبلها لإعداد العشاء!
■ ■ ■
أغلق المسرح أبوابه بعد انتهاء موسم الصيف ومن يومها وحتى سماعى بالخبر لم ألتق بها.. وإلى أن فوجئت بالخبر الذى أكده لى مدير أعمالها محمد حافظ بأن شادية دخلت المستشفى بالفعل!
كانت مسألة ضرورية - بحكم العشق والعيش والملح - أن أسأل عنها...
قلت لها فى التليفون: سلامتك!
ردت على قبل أن تضع سماعة التليفون تدعونى لزيارتها وعلى وجه السرعة!
الدعوة للقائى كانت أشبه بمطلع أغنية لها تقول فيها «تعال ياللا فى غمضة عين.. لا تقول دقيقة ولا دقيقتين.. ح أعد لك وأقول واحد.. وتيجى قبل ما أقول اتنين.. تعال ياللا.. ياللا.. تعال ياللا ياللا فى غمضة عين!..
■ ■ ■
فى غمضة عين كنت عندها بالفعل.. شادية أسعدتنا وأبهجتنا.. من الواجب أن أطمئن عليها!.. ذهبت والتقيت شادية «القمر» الذى زاده الشحوب عند التطلع إليه وهو يرقد مريضًا على سرير بمستشفى المقاولين!
اعتدت فى ليلة 14 بالتحديد التطلع إلى السماء والفرجة على القمر وهو يبدو فى تمام اكتماله!
فى مايو عام 1983 ميعاد الزيارة كانت المرة الأولى فى حياتى التى أرى فيها القمر راقدًا على سرير وفى مستشفى.. تاريخ «القمر» الشهير بـ«شادية» يعود سطوعه الفنى إلى أواخر عام 1949 عندما دق حلمى رفلة باب الشقة التى تقطنها فى حى عابدين حاملاً معه أول عقد بطولة لفيلم «العقل فى إجازة» صيتها الفنى كان قد وصل إليه عبر انتشارها فى حفلات المدارس التى كانت كثيرًا ما تحييها أو حفلات المناسبات العائلية وفيها كانت تقدم أغانى ليلى مراد التى تمنت أن تصل ولو إلى «ربع» شهرتها!.. وهو ما تحقق من بعدها والدليل ذلك الاستقبال الهادر من الجمهور الذى جاء إلى السينما يوم افتتاح عرض فيلمها الأول لرؤيتها! استقبال بالورود والتصفيق استقبالاً أدهشها بالإضافة إلى أفراد فرقة حسب الله التى جاء بها حلمى رفلة لتكون بموسيقاها فى استقبال البطلة! مجموعة صور للبطلة بالألوان وقفت توزعها فتيات الكومبارس على المعجبين بـ«شادية»! المصورون الصحفيون يروحون ويجيئون فى انتظار لحظة وصول البطلة!.. جماهير تهتف لها وقد وقفت على الصفين قائلين «أقولك يا شادية أنت فين.. أنت موجودة جوه ننى العين»!..
■ ■ ■
تحقق حلم البنت ونالت من حب الجماهير ما يؤكد نجاحها!.. هناك تعريف للنجاح يقال وبأنه القيمة الشخصية مضروبة بالظروف.. قيمة شادية كانت تكمن فى موهبتها باعتبارها صوتاً عاطفياً جديداً له طعم خاص وأيضًا مذاق! عن الصوت هناك كلمة قالها «آدمون روستان» حول صوت المطربة العالمية «أديث بياف» بأنه عبارة عن حبة ملبس حلوة تمتصها «الأذن»! صوت شادية أيضًا له نكهة وطعم حبة الـ«بونبونى»!
راح كل من استمع إلى صوتها يردد أغانيها.. الأطفال معجبون أشد الإعجاب بـ«ماما إن فضلت فايتها.. وجت هنا ضرتها.. أنا رايحة أخرب بيتها.. وأنسفها بالألغام.. يابابا نام وارتاح.. والشر عنا راح.. يا محضر الأرواح.. روح صالح أمى قوام»!.. أقلام النقاد راحت تحلل الظاهرة وبأننا أمام أغنية طريفة تحتوى على خفة ظل تضم الكثير من معانى الإصلاح الاجتماعى.. راح كل من استمع إلى صوتها يردد أغانيها «لقيته وهويته».. حبينا بعضنا.. عاجبانى وحاشته.. سوق على مهلك.. يا دبلة الخطوبة.. خمسة فى ستة.. وقتها أقلام النقاد راحت تحلل الظاهرة وبأننا أمام مجموعة أغان تحتوى على عدة أفكار جديدة فى كلمات راقية التعبير واللحن الذى يترجم هذه الأحاسيس ويعبر عنها بصدق!.. و..
راح كل من استمع إلى صوتها يردد أغانيها «إيه فوق الحب أقولهولك.. حسن يا خولى الجنينة.. حبايبى صبحوا عزالى.. «ليالى العمر معدودة.. وليه نبكى على الدنيا.. وناس فى الدنيا موعودة.. نصيبها يروح لناس تانية.. صحيح الدنيا دي خاينة.. وخدعانا بأمانيها.. نهاية ضحكها باينة.. وبتحاول تخبيها.. كفاية شقاها وخداعها.. كفاية سيبونى أودعها.. ولا عندى آمال تضيعها.. ولافيه بخت فى الدنيا».. وقتها أقلام النقاد راحت تحلل الظاهرة فالأغنية عند شادية و«ليالى العمر» بالتحديد تحولت من كلمات مقفاه أشبه بالزجل إلى محاضرة فى «الفلسفة» والحكمة! شادية بـ«ليالى العمر» اتخذت مدارًا آخر عما تعودنا سماعه منها! ابتعدت قليلاً بـ«ليالى العمر» عن مسار اللوعة والهجر والفراق إلى مسار النظرية والحكمة المأثورة! شادية أعطت لجمهورها الكثير من الأغنيات التى ستظل فى وجدان المستمع! شادية لم تكن مجرد مطربة فقط وإنما أيضًا ممثلة عظيمة المقام.. ليلة الحنة.. قطر الندى.. بشرة خير.. الروح والجسد.. بنات حواء.. أنا وحبيبى.. لحن الوفاء.. شاطئ الذكريات.. ودعت حبك.. معبودة الجماهير.. المرأة المجهولة وأكثر من مائة فيلم آخر.. سألتها بالمناسبة عن رأيها فى أفلام هذه الأيام فأجابت قائلة: معظم ما تقدمه السينما من أفلام هذه الأيام لا يعبر عن المجتمع من قريب ولا من بعيد السينما أصبحت تجارة أكثر منها فنًا ولذلك اختفت نوعية الأفلام ذات المستوى الراقى ليحل محلها أفلام ليست لها قيمة! شادية لم تكن مجرد مطربة وممثلة سينما فقط وإنما ممثلة مسرح تنافس فاطمة رشدى وسميحة أيوب وشويكار! تجربة الوقوف على المسرح لم تخطر على بالها ذات يوم وإن كانت تتمنى أن تفعلها! عن التجربة يقول «جان نورمان» لا ينبغى أبدًا أن تقول أيها الينبوع أنا لن أشرب أبدًا من مائك فهناك لحظات يظمأ المرء فيها!.. كانت شادية تريد أن تجرب وترتوى!
■ ■ ■
ذهبنا إليها أنا والمنتج سمير خفاجى والمخرج حسين كمال إلى منزلها فى الجيزة نعرض عليها خوض التجربة للقيام ببطولة مسرحية «ريا وسكينة» فى جرأة وافقت ولم تتردد.. على المسرح رقصت وغنت وصرخت - بمنتهى الرشاقة.. إلى جانب الرشاقة وإجادة التعبير والتمثيل.. هناك شيء أهم من كل هذه الأشياء وهو الحضور وخفة الظل! أقول لكم الحقيقة كانت وحدها من بين وسط ممثلى الرواية هى «البريمو» فى يانصيب الأداء المسرحى المتمكن أو بلغة أخرى هى على خشبة المسرح من كانت «تسرق» نظرة العين ممن كان حولها! كان المسرح بالنسبة لها هو كل شىء تفرغت لهذا الغرض تمامًا.. رفضت أفلامًا سينمائية ومسلسلات تليفزيونية وتسجيل أغنيات جديدة باختصار تفرغت للمسرح و«قعدت له» لا تقوم بعمل شىء سوى انتظار «بكرة» للذهاب إليه والاستمتاع بالوقوف على خشبته.. كان ميعاد الذهاب للمسرح بالنسبة لها هو «موعد غرام» و«أحب بكرة».. وأموت فى بكرة.. وأحلى بكرة فى الدنيا بكرة.. يا ريته بكرة كان النهارده.. واللا النهارده كان يبقى بكرة»!
سألتها بالمناسبة عن توصيفها للنجاح فأجابت قائلة: النجاح عبارة عن هزائم متكررة.. يصمد فيها الإنسان ويقع.. ثم يقف! أنا والحمد لله لم أتعرض فى مسيرتى الفنية لمثل هذه الهزائم وإنما تعرضت لها أخيرًا فى صحتى! وبسبب المجهود الذى تقدمه على خشبة المسرح بشكل يومى سقطت نتيجة الإجهاد.. سقطت فوق الفراش.. تعانى دائمًا من صداع حاد مستمر وارتفاع معدلات درجة حرارة الجسم وسوء الهضم والشعور من أقل مجهود بالتعب والإرهاق! نشرت الجرائد يومها خبرًا يقول بأن شادية مريضة ودخلت المستشفى!
يا خبر!..
يا خبر!..
يا خبر!..
خبر أصابنى بالصدمة عندما قرأته منشورًا على صفحات الأهرام فى مايو 1983 فقررت زيارتها.. ذهبت إليها حاملاً معى «بوكيه ورد» و«علبة شيكولاته» لواحدة غيرها - ليست فى قيمتها- لذهبت حاملاً معى رغيف بـ«فول نابت» و«بصل أخضر»
ويومها.. رأيت «القمر» وهل يخفى نور القمر وهو يرقد على سرير فى مستشفى؟!
رأيت القمر شاحبًا!
رأيت القمر يئن ويتوجع!
رأيت أن أدعو له بالشفاء العاجل متمنيًا له أن يسترد سطوعه - وبسرعة - كى يضىء لنا ليالينا.. و..
سلامتك ألف سلامة شادية يا قمر 14