أحمد فايق يكتب : فرحة أسامة الشيخ وفراق مدكور ثابت
من أشهر عادات وتقاليد الصعيد، هو وجود جلبابين فى كل منزل معدين وجاهزين فى أى وقت، لا يرتديهما الرجل إلا فى مناسبتين.. الموت أو الفرح، ومنذ عشرات السنين لم تخل خزانة ملابس والدى من هذين الجلبابين، تعلمت منه أن الأصول تقتضى الذهاب للعزاء قبل الفرح والمريض قبل الاثنين.
من المرات النادرة أن تذوق شعور الفرح والحزن فى الوقت نفسه، لكننى عانيت من هذا الشعور الأسبوع الماضى، شعرت بالفرح حينما خرج أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون السابق من السجن بكفالة، وشعرت بالحزن الشديد حينما انتقل إلى رحمة الله الدكتور مدكور ثابت رئيس أكاديمية الفنون السابق، فالاثنان أثرا فى حياتى وأدين لهما بالفضل.
مدكور ثابت من القلائل الذين يستحقون لقب دكتور، فقد وهب نفسه للحياة الأكاديمية وقدم للسينما المصرية والعالمية نظريات مهمة ستخلد اسمه، ضحى بمستقبله كمخرج سينمائى واعد منذ البداية من أجل الحياة الأكاديمية، أتذكره فى مشاهد كثيرة مرت أمامى حينما علمت بالخبر الأليم، المشهد الأول حينما كان رئيسا للرقابة على المصنفات الفنية، وطلب مقابلتى، ثم قال لى «هناك فيلم جميل ورائع اسمه بحب السيما، لا أستطيع الموافقة عليه وحدى، لأننى أعانى ضغوطا من بعض الأجهزة تطلب منى عدم السماح بالعرض» قلت له «لن نسمح بمنع فيلم لأسباب سياسية أو دينية» قال: «هذا ماأعرفه وأثق فيه.. أرجوك هاجمنى وطالب بإقالتى من الرقابة حتى يمر هذا الفيلم الجميل».
المشهد الثانى حينما ذهبت لتهنئته برئاسة أكاديمية الفنون، قال «لم يتبق من العمر الكثير ولا أعتقد أننى سأستمر فى هذا المكان كى أصلحه بشكل كامل، سأسعى لإنجاز مشروعين الأول هو السماح للطلبة الفلسطينيين والعرب بالدراسة بنفس مصاريف الطلبة المصريين، فنحن عرب ولن يستطيع أحد نزعنا من قوميتنا، حتى لو كان التوجه العام للدولة عكس ذلك، والمشروع الثانى هو طباعة كل كتب الأكاديمية وطرحها للمهتمين بالسينما للبيع بأسعار رمزية، وعمل كتب ودراسات جديدة فى السينما والمسرح والباليه والموسيقى، فالمصريون يحتاجون لهذا فى مواجهة الرياح الوهابية القادمة من السعودية» وبعد أسابيع قليلة وجدت حقيبة كبيرة فى مكتبى بالجريدة فيها مالايقل عن مائة كتاب عن الفنون، هل تعرفون من أين أتى بأموال طباعة هذه الثروة من الكتب، لقد قام بإلغاء مكافآت الكبار من أكاديمية الفنون بما فيها مستحقاته شخصيا وبهذه الأموال طبع الكتب، ولا تستغرب فهذا الرجل بعد كل المناصب التى تقلدها لم يترك شيئا لابنه ثابت سوى سيارة 128 وشقة صغيرة فى شارع خاتم المرسلين بالهرم، وقبل هذا كله اسم سيفتخر به هو وأحفاده لمئات السنين.
المشهد الثالث بعد الثورة حينما تلقى اتصالا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة يطلب منه أن يصبح وزيرا للثقافة، فرفض قائلا لهم «الثورة قام بها الشباب وأنا راجل عجوز، اعطوا مساحة للشباب، ويمكن عمل مرحلة إنتقالية من جيل الوسط، أرشح الدكتور عماد أبو غازى فهو الأقدر على هذا المنصب منى.
المشهد الرابع حينما كان رئيسا للرقابة على المصنفات الفنية، ضبطت المباحث بمطار القاهرة محاولة تهريب شريط فيديو فيه لقطات قديمة لرحلة «المحمل» من مصر إلى السعودية، وهى قافلة مصرية بها كسوة الكعبة فى عهد الملكية، وفيه اللقطة الشهيرة لملك السعودية وهو يقبل يد ملك مصر والسودان، كما كان يحتوى على لقطات للتكية المصرية فى السعودية وهى المكان الذى كانت تموله مملكة مصر والسودان لإطعام فقراء المملكة العربية السعودية، لما علم مدكور بهذا الأمر أصدر قراراً بمنع خروج أى فيلم مصرى للخارج، وبحث عن أصل الفيديو لكنه لم يجده.
وبقدر حزنى على وفاة الدكتور مدكور بقدر فرحتى بخروج المهندس أسامة الشيخ من السجن بكفالة، هذا الرجل الذى فعل الكثير من أجل مصر وتليفزيونها، ومن لا يعرف قيمة أسامة الشيخ عليه أن يشاهد ماسبيرو الآن الذى تحول لبيت أشباح من بعده.
«البلدوزر» هو الاسم الأشهر لأسامة الشيخ بين صفوف ماسبيرو وتلامذته والمؤمنين بما يفعله، فقد حول التليفزيون من قبر إلى مكان ينبض بالحياة خلال شهور، لم يستطع الروتين الحكومى الصمود أمامه، فقد كسر كل القواعد أمام قاعدة واحدة وهى مصلحة مصر قبل كل شىء، ابتكر شعارات «مافيش حاجة حصرى.. كله على التليفزيون المصرى»، واجه وحده جبروت وأموال الجزيرة وقطر ولم يشارك فى حرمان المصريين من مشاهدة مباريات منتخب بلادهم، أنقذ الدراما المصرية من الموت أمام الدراما التركية والسورية، فقد اشترى المسلسلات من المنتجين لصالح التليفزيون حتى لا يسقط المبدع تحت أقدام أموال الخليج، كان يعد مشروعاً ضخماً لإنقاذ السينما المصرية أيضا.
هذا الرجل صنع أهم وأكبر الفضائيات العربية وعلى رأسها الـ«إيه ار تى» و«الرأى» وغيرهما، وكان يتقاضى آلاف الدولارات، لكنه لم يتردد لحظة حينما طلبه التليفزيون المصرى بأجر أقل بكثير مما كان يتقاضاه، ولمن لا يعلم هذا الرجل أستاذ لجيل كامل من المخرجين الكبار ومقدمى البرامج والمعدين فى الفضائيات ممن يتفاخر بهم الإعلام المصرى، وللأمانة هم آخر جيل يحمل على كتفه المهنية والحرفية ومنهم عمر زهران وخالد شبانة وهيثم البيطار وعماد الغول وغيرهم.